الخدمات الاعلامية

وليتَك تَسْلَم / بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 24 حزيران 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {إن الله لذو فضلٍ على الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون} سورة غافر.

قال الحافظ الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد”: “حدثنا أبو جعفرٍ الهرَوي قال: كنت مع حاتم وقد أراد الحج فلمَّا وصل إلى بغداد قال لي: يا أبا جعفر أحب أن ألقى أحمد بن حنبل. فسألنا عن منزله ومضينا إليه فطرقتُ عليه الباب فلمَّا خرج قلت: يا أبا عبد الله أخوك حاتم. قال: فسلَّم عليه ورحَّب به وقال له بعد بَشاشته به: أخبرني يا حاتم فيمَ التَّخلُّص من الناس؟ قال: في ثلاث خِصَال قال: وما هي: قال: أن تُعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئا، وتقضي حُقُوقهم ولا تستقضي أحدًا منهم حقًا لك (أي لا تطلب منهم حاجة)، وتحتمل مكروههم ولا تُكرِه أحدًا على شىء (أي لا تُجبر أحدًا على ما لا يحب). فأطرق أحمد ينكت بإصبعه على الأرض (أي جعل يُحرِّك إصبعه على الأرض) ثم رفع رأسه ثم قال: إنها لشديدة. فقال له حاتم: وليتك تسلم وليتك تسلم وليتك تسلم”.

كثيرًا ما يتعرَّض بعض الناس لأذى الآخرين سواء على المستوى الجسدي بنحو الضرب أو القتل أو على المستوى المالي إذ يأكل بعضُهم مالَ بعضٍ، بغير حق، وربما عادى بعضهم بعضًا أحيانًا لثرائهم وسعة أرزاقهم أو لتفوّقهم في العُلوم أو لكثرة ما يُجري الله على أيديهم من الخير وقصص ذلك في المجتمع كثيرة، ومع ذلك فلا ينبغي للعاقل أن يجعل مما يتعرَّض له من الضرر من الخصوم والحاسدين والغوغاء عائقًا أمامه عن بلوغ المراتب الشريفة.

للهِ دَرُّ حاتم

 إن رضا الناس غايةٌ لا تُدرك ومهما كان المرء مُراعيًا لحقوق الله وحقوق الناس فلن يسلم عادةً من ضغينةٍ يحملها له البعض في صدورهم، وهذا ما أدركه حاتم فأجاب به الإمامَ أحمد بن حنبل حين سأله فوقع كلامه من البلاغة بمكان عظيم حتى حفظه له التاريخ فكان على جزالة لفظه درسًا يتضمن موعظةً جليلة للأجيال. وحاتم هذا هو أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان وقيل: ابن يوسف الأصم، من أكابر مشايخ الصُّوفية الصادقين وفي “الرسالة القشيرية” للشيخ عبد الكريم القُشيري عن الأستاذ أبي علي الدَّقاق قال: “جاءت امرأة فسألت حاتمًا مسألة فاتفق أنه خرج منها في تلك الحالة صوتٌ (أي ريحٌ من الدُّبر) فخجلت فقال حاتم: ارفعي صوتك. فأرى من نفسه أنه أصم (أي تظاهر بضعف السمع لتظن أنه لم يسمع ما كان منها ليرتاح بالها) فسُرَّت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت فغلبت عليه فقيل الأصم”. فانظر إلى حُسن حال هذا الرجل وما عليه أكثرنا اليوم، ومنْ مِنَّا يُفكر أن يصنع مثل ما صنع لو كان في مثل هذا الموقف؟

ولقد رفعه الله وأكرمه فنال بتقواه في مراتب الأولياء درجةً عالية وله في تراجم الصَّالحين أخبار طيبة لسنا بصدد إطالة ذلك، إلا أن بلاغة ما قاله هذا الرجل المبارك للإمام أحمد جديرٌ أن يُكتب فيها شيء، وإنما كان سؤال الإمام أحمد، وهو مَن هو علمًا وفقهًا وورعًا وإمامةً، لهذا الشيخ الصوفي الجليل لما يعرفه أحمد من رسوخ قدمه في المعرفة، وكان أحمد يُدرك في حقيقة نفسه أن رضا الناس غاية لا تدرك ولكنه أراد الاقتباس من فيوضات الصَّالحين وأنوار المتقين، وفي هذا تعليم لنا أن لا يتكبَّر الواحد عن السؤال فيما يحتاجه وعن طلب النصيحة وعن التماس الحكمة والموعظة مهما بلغ شأنه بخلاف كثيرٍ من أدعياء المشيخة اليوم إذ يظن أحدهم بنفسه الإمامةَ وهو لا شىء، وأين كل مشايخ الدنيا المعروفين اليوم من أحمد بن حنبل؟ وكانت من حاتم تلك الإجابةُ المشرقةُ بحروفها الذهبية، ويقول أحمد: إنها لشديدة. فيجيب حاتم: وليتك تسلم ثلاث مرات”. وفي هذا المعنى قيل: وما أحدٌ من ألسن الناس سالمٌ                         ولو أنه ذاك النبي المقرَّب

أكثر الناس لا يشكرون

وهذه حقيقة يعرفها كل من خالط الناسَ واشتغل في الحقل الاجتماعي ولكننا نقول: إن العاملين في شؤون الناس أحد اثنين: واحدٌ يقصد بعمله الوصولَ إلى مناصب دنيويةٍ مرموقة ويطمع في تكثير الناس حوله لغاية في نفسه وهذا ربما يصل إلى ما يصبو إليه وربما لا يصل، فإن أدرك ما أراد فقد نال حظَّه من الدنيا وخسر ثواب الله لأنه لم يُرد بعمله رضا الله، وإن لم يصل إلى مراده عاش طول عمره في كدٍّ بلا طائل فيا ضيعان الأعمار، وآخر يُحسنُ للناس ابتغاء الأجر من الله فهذا وإن نابه من الناس ما نابه فإن أجره محفوظٌ يوفَّاه يوم القيامة ولا يُنقصه إيذاء الناس له. فعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن الذي يُخالط الناس (أي ليرشدهم وينفعهم) ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبرُ على أذاهم” رواه البخاري في “الأدب المفرد”. وإذا ما كان أكثر الناس لا يشكرون اللهَ الذي خلقهم كما دلَّت الآية أعلاه فكيف يطمئن قلبُ أحدٍ بعد ذلك إلى أن الناس ستشكر له كما يحب. ومن أقلقه أذى الناس له فليتذكر نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم وما لقي من كفار قريش مع حرصه على استخراجهم من الظلمات إلى النور وليتأمل ما رواه الإمام أحمد عن ربيعة بن عبَّاد قال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية (أي قبل أن يُسلم ربيعة ثم أسلم فيما بعد) في سوق ذي المجاز (من أسواق الجاهلية) وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا (أي ومحمدٌ رسول الله) والناس مجتمعون عليه ووراءه رجلٌ وضيء الوجه أحول ذو غديرتين (تثنية غديرة وهي الضَّفيرة وتحصل بإدخال الشعر بعضه في بعض) يقول: إنه صابئ (أي تارك لدين كفَّار الجاهلية) كاذبٌ. يتبعه حيث ذهب فسألتُ عنه فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب”.

فإذا كان هذا بعضَ ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمِّه وهوصلى الله عليه وسلم أفضل ُخلقِ الله فكيف تظن بعد ذلك أنك تسلم من أذى الناس؟ وحيث أدركتَ هذه الحقيقةَ فأرضِ ربَّك ولا تكثر لهمِّك.

والحمد لله أولًا وآخرا.

مجلة الشراع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi