علم الكلام وتأويل النصوص والقراءة الأيديولوجية للنص/ بقلم عبد الهادي محيسن/الشراع

مجلة الشراع 22 آب 2021

يقوم علم الكلام في بنيته الأساسية على مبدأ تأويل النصوص الدينية، وهناك نمطين من القراءة التأويلية أحدهما تأويلية مغرضة – أي قراءة أيديولوجية – والثانية حرفية تاريخية، والكثير من التأويلات حسب الطريقة الأولى، حيث تختار آلياتها بطريقة نفعية براغماتية وليس المهم في هذه القراءة ما تقوله النصوص، بل المهم ما يحتاج أن يقوله الخطاب الديني الذي يهتدي في قراءته خطى سلفه التراثي .

أي أن كثيرا من تلك التأويلات تعتمد على جذب دلالة النص القرآني الى معنى مسبق محدد سلفا ، ضمن منظومة فلسفية فكرية تصوغ من خلاله رؤية للواقع والتاريخ والعالم،  والمعلوم أن آيات النص القرآني تكون إما محكمة لا يمكن تأويلها أو متشابهة يعمل على تأويلها لاستخراج الأحكام منها  ، فيدرج عند ذلك جزء من هذه المنظومة في خانة المحكم .

بينما يدرج الأجزاء التي تتعارض دلالتها مع أي جزء من المنظومة في خانة المتشابه، لجذب  النص  الى المعنى المطلوب لينطق بالمعنى المحدد سلفا ، ولتوضيح المعنى نستشهد على ذلك مثلا بتأويل المعنى للآية  ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا “، وفي قراءتنا للفعل أمرنا على صيغة الرباعي (أفعل) بدلا من صيغة الثلاثي وذلك لتفادي معنى أن يكون الله آمرا بالفسق .

وعلى هذه القراءة تصبح الدلالة (آمرنا مترفيها) أي أكثرنا عددهم ففسقوا نتيجة لذلك ، وليس نتيجة للأمر بالفسق من الله تعالى الذي يتعارض مع مفهوم العدل الإلهي ، لكن هذا التأويل لا يحل المشكلة في الحقيقة لأن الفعل الإلهي بإكثار عدد المترفين يجعل الفسق نتيجة مترتبة على القصدية الإلهية ، الأمر الذي يخل بمفهوم العدل الإلهي من زاوية أخرى .

أما التأويل الذي يطرحه بعض المؤولين في معاني القرآن ويعتمد عليه القاضي عبد الجبار اعتمادا كليا ، فهو في قراءة الآية على تقدير محذوف – بمثابة جار ومجرور متعلق بالفعل أمر وتقرأ الآية على الوجه التالي:

إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها (بالطاعة) ففسقوا فيها… لكن الزمخشري (لا يتقبل)هذا التأويل على أساس أن ( حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف والدليل قائم على نقيضه) وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض  .

 وتأويل الزمخشري في النهاية لا يحل المشكل ، لأنه افتراض أن المجاز في الأمر – ووجه المجاز في تعبيره أنه صب عليهم النعمة صبا – فجعلوها ذريعة الى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وانما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر- وهو تأويل لا يختلف عن تأويلات سابقيه في إغفاله لمستويين من السياق على الأقل .

المستوى الأول سياق التركيب اللغوي المبني على الشرط، والذي يجعل إرادة الإهلاك للقرية من جانب المتكلم – الله – هو المحدد لدلالة الأمر إن كانت حقيقية أو مجازية، هذا التركيب يجعل قصدية الإهلاك مرتهنة بالإرادة أولا ، ويجعل الأمر بالفسوق تحقيقا لوقوع القصد ،وهذا السياق التركيبي ينفي نفيا تاما أية محاولة تأويلية لرد الدلالة الى مفهوم (العدل الإلهي) بالمعنى  الإعتزالي ، ومستوى السياق الثاني المغفل في تلك التأويلات هو السياق الخارجي سياق التنزيل وسياق المخاطبين ، فالسياق سياق تهديد لأثرياء مكة وهوسياق لا يجعلها تنطق بأية دلالة إيجابية في علاقة المتكلم في المخاطب . إن العلاقة في سياق التهديد والوعيد لا بد أن تكون أعلى أو أدنى أقوى أو أضعف ، ومحاولة جذب الدلالة لمعنى خارجي محدد سلفا لابد أن تنتهي كما رأينا الى الإخفاق .

هذا جانب من التراث التأويلي الذي أصبح مسلكا في الخطاب الديني بشكل عام ، وقد اخترنا النموذج الإعتزالي قصدا لنكشف أن المسلك التأويلي لا يختلف من زاوية إهداره للسياق باختلاف المنظومة الفكرية المحركة للتأويل ، النتيجة واحدة سواء كان الدافع للتأويل تيارا فكريا تقدميا أم كان تيارا رجعيا .

لأن سيطرة الأيديولوجيا على المسلك التأويلي تهدر مستويات السياق ، وتسقط التأويل في خانة التلوين ، ولا يختلف الخطاب الديني المعاصر كثيرا عن سلفه في طبيعة المسلك التأويلي العام .

عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث

 

مجلة الشراع