*كتب الإعلامي د. باسم عساف في جريدة الشرق – بيروت :* *أزمة حدود … أم صراع وجود …*

*تتكاثر الأقاويل حول ما يجري في فلسطين عموماً ، وفي غزَّة خصوصاً ، سيَّما وأن مباحثات التوصّل إلى هدنةٍ أمنيةٍ ، أو وقف الحرب الجارية منذ عملية طوفان الأقصى في /٧ أكتوبر ، والمستمرّة حتى اليوم ، حيث مضى عليها أكثر من ستَّة أشهر بصورةٍ مستمرةٍ بالقصف والتدمير ، والقتل الممنهج للمدنيين العزَّل ، وغالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ ، ويُزاد عليها الحصار المُحكَم والتجويع الشامل ، ضمن حرب إبادةٍ وأرضٍ محروقةٍ ، حيث لم تشهده على هذا النمط ، أيُّ حربٍ عالميةٍ أو محليةٍ داخليةٍ في أي بلدٍ ، تجتاحه صراعات سياسية ، أو عقائدية ، أو سلطوية ، أو دينية …*

هذا ما يبتغيه الكيان الصهيونيّ في أرض فلسطين ، إذ أن الهدف منذ بداية فكرته ، قام على القتل والحرب الإبادية للشعب الفلسطيني ، أو على تشريدهم وتشتيتهم لأجل إحلال المستوطنين اليهود مكانهم ، تمهيداً لإقامة الوطن القومي اليهودي ، وفق مقررات المؤتمر الصهيوني العالمي ، الذي عُقِدَ في مدينة بازل بسويسرا سنة / ١٨٩٧ وكان بقيادة : تيودور هرتزل والحاخامات في الشتات اليهودي …
*لقد تم الإحتلال والتسلط على أرض فلسطين بتشجيع وإلتزام الإحتلال الإنكليزي ، وذلك بتأمين قيام الوطن القومي اليهودي بدءاً من وعد بلفور سنة /١٩١٨ ، وحتى إتخاذ القرار الدولي في هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وإعلان دولة إسرائيل وعضويتها في الهيئة سنة ١٩٤٨ …*
وتم رسم حدودٍ على الورق ، للدولتين اللتين تتقاسما أرض فلسطين ، بما لا تتجاوز نسبة الأرض السليبة عن /٤٠ %٠ من كامل حدود فلسطين المعلنة وفق إتفاقية سايكس – بيكو والتي قسَّمت المنطقة العربية الوسطى بعد إحتلالها من قبل فرنسا وبريطانيا ، وكانت فلسطين غنيمة من حصة الإنكليز بموجب هذه الإتفاقية المدبَّرة من قبل الصهيونية العالمية لتجميع يهود العالم فيها تحت حجة أنها أرض الميعاد لبناء هيكل سليمان وإعادة هيمنة مملكة داوود ….
*الكيان اليهودي المصطنع ، والمفروض على الشعب الفلسطيني ، والمكَرَّس على أرضهم بالقوة والحروب ، التي شنتها عصاباتهم ، ومن يسندها ويسلحها من المحتلين ، بالعديد من المجازر والقتل والتشريد ، وإغتصاب الأملاك والأراضي وكل مقومات أهلها الأصليين ، وبشكلٍ متزايدٍ لقضم الأراضي ، وقد إستمرت عملياتها من بعد إقرار التقسيم ، وبحروب ٍ متعدِّدة طالت أراضي الدول العربية المحيطة (دول الطوق ) لتنفيذ غايتهم بإقامة دولة إسرائيل الكبرى : من (الفرات إلى النيل) وقد شمل التوسع والإحتلال ، دول مصر والأردن وسوريا ولبنان ، وهي ممعِنةٌ بالتوسُّع لرسم حدود ما يُسمى بالشرق الأوسط الجديد ، ضمن مؤامرة خارطة الطريق ، والتي تنفَّذ تحت ستار سياسة (الخطوة خطوة) ، التي أفصح عنها اليهودي الأميركي كيسنجر …*
الكيان اليهودي *(إسرائيل)* هو الوحيد في العالم ، الذي لا يعتمد خارطةً رسميةً له ، ولا حدود له بأرضٍ يكتفي بالحكم والتسلُّط داخلها ، لتكون هي المعتمَدة لدى هذه الدويلة داخل الدولة ، مما يدلُّ على مبدأهِم بالتوَسُّع والإستيطان ، رغم القرارات الدوليّة الجازمة بوقف بناء المستوطنات ، وخاصَّةً على حساب أراضي السُّلطة الفلسطينية ، التي تمَّ تركيبها على الجزء الثاني من أرض فلسطين ، والتي تتقلَّص سلطتها يوماً بعد يوم ، بفعل الإحتلال والإستغلال والإستيطان ، مع غضِّ الطرف وإبعاد النظر عنه بالقرارات الدوليَّة ، عبر الفيتو في مجلس الأمن ، أو عبر الإتفاقيات والعهود المُبرَمة معها ، التي تحُول دون التحرير ، وإعادة الأمور إلى نصابها ، في حقِّ تقرير المصير ، وفي إقامة الدولة الكاملة السِّيادة على أرض فلسطين وحدودها الدوليَّة …
*القضية الفلسطينية ، منذ نشأتها مع الإحتلال الإنكليزي ، ومن ثمَّ اليهودي ، لم تنفصل عن إحقاق الحَقِّ وإزهاق الباطل ، مهما إتّصفت بقوالبَ مركّبة ، أكانت دوليّةً أم عربيّة ، وحتى فلسطينيّة ، فهي قضية لم تنشأ على نزاعٍ بين مساحات الأراضي في فلسطين ، أو مع الأراضي العربية الأخرى ، ولا عن خلافٍ بملكيةِ عقاراتٍ هنا وهناك ، حيث يثير البعض : بأن المستندات ، تشير إلى تبعيَّة الأراضي لما جاء في سايكِس – بيكو ، وهي مرسَّمة لتكريس الإحتلال الإنكليزيّ والفرنسيّ في المنطقة العربية ، وهذا أيضاً يتنافى مع الحقيقة ككل ، ومع حَقّ الشعوب بتقرير مصيرها ، وما بُنيَ على خطأٍ فهو خطأ ، والأمر لا يستوجِب التفسير ولا التنظِير ولا الفلسفة ، حيث أنَّ الأمر هو على أرض الواقع لأصحاب الأرض ، وليس بناءً لأفكارٍ ومعتقداتٍ مزعومةٍ ، أو غاياتٍ مرسومة ….*
إنَّ ما جرى من إتفاقياتٍ ومعاهداتٍ دوليّةٍ ، عقب حروبٍ مسرحيّةٍ ومركبةٍ على صورة البازل ، مع أنظمةٍ قد تجاوز حكَّامها حقوق شعوبها ، بالخيانة أو العمالة أو إستخدام وسيلة النفاق ، التي يبرع بها أركان الكيان اليهودي لتنفيذ مآرب أخرى ، وغاياتٍ مشبوهةٍ ومتصفةٍ بالإحتيال والألاعيب البهلوانية ، وإستخدام كافة الشعارات والتسميات المنمَّقة ، بالإنفتاح والتسامح والسلام المنشود ، والكيان قائمٌ على الغدر والحقد والحروب ، التي تُفضي إلى تحقيق مُرادهم ، بإقامة دولتهم الكبرى ، والعبرة غير متوفرة لدى هذه الأنظمة وقادتها ، وحسبهم القول المأثور : (فاقد الشيء لا يعطيه) ، فمبدأ الكيان قائم على الحروب فكيف به ليعطي السلام ….
*إن ترسيم الحدود بين الأنظمة العربية ، وبين الكيان اليهودي ، ليس إلا محطاتٍ من سياسَةِ الخُطوة خُطوة الكيسِنجرية اليهودية ، والدلائل عليها كثيرة جداً ، حيث كلما نشبت حربٌ مصطنعة ، ترافقها الشروط الموضوعة للتنازل على قياسها ، كما حدث بعد حرب/ ١٩٦٧ ، حتى باتت المطالبة بالعودة إلى ما قبل حدود /٦٧ ، ومع حرب /٧٣ ، فقد جرت المفاوضات لإعادة وترسِيم الحدود والشروط العسكرية مع مصر في سيناء ، وأيضاً بمِثلها مع سوريا في مرتفعات الجولان ، وأيضاً مع الأردن بين الضَفَّتين الغربية والشرقيَّة لنهر الأردن …*
وأيضاً في حروب الغزو للأراضي اللبنانية والتي إنتهت نظرياً سنة / ٢٠٠٠ ، بالإنسحاب من أرض الجنوب ، وترسيم الحدود البرّية بالخط الأزرق ، وتموضع قوات اليونيفل الدولية ، ومن بعدها تمَّ ترسيم الحدود البحرية على خطِّ / ٢١ وحقل قانا ، وإعطائهم حقل كاريش مع الخطّ / ٢٩ …
*واليوم تعود الصورة في الجنوب إلى الواجهة ، مع الجولات المكُّوكيّة للمبعوث الأميركي هوكشتاين ، بتمرير إستكمال الترسيم البرّي وشروطه الأمنيَّة ، لتطال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ، وتمَوضع سلاح المقاوَمة ، وتكريس هذه الإتفاقيات ، لإثبات الوجود الصهيوني على الأرض العربية هنا وهناك ، وجميعها قد تكرَّست مع قرار مؤتمر الجامعة العربية ، الذي عُقد في بيروت وتَمَّ فيه إقرار مبدأ : ( الأرض مقابل السلام ) وقد ذهبت الأرض ، وتبخَّر السّلام …*
إنَّ حرب غزّة المستمرة بأقسَى مشاهِدها ، التي تُدمِي القلوب وتُعمي العيون ، عمّا يجري بها من وحشيَّةٍ لامُتناهيةٍ ، وبعيدةٌ كلَّ البعد عن الصِّفات البشريّة ، وعن أدنى المبادئ الإنسانيّة وحقوق الإنسان ، التي يتباهى بها العالم المدَّعي بالتقدم والتطور والحداثة ، وإعتماده للديموقراطية والحريات العامة ، والذي عجز أو إمتنع عن ردع ووضع حدٍ لتمادي هذا الكيان وأركانه ، عن المجازر والوحشية بالتعامل مع أبناء فلسطين ، أصحاب الأرض الأصليين…
*وهم يُبادُون على مرآى الرأي العام العالمي بأسوَأ أنواع الوسائل والطرق الوحشية ، التي لا حدود لها ، لا شكلياً ولا معنوياً ، وغيرُ عابئةٍ بتعبير الشعوب ومظاهراته في كل دول العالم ، وفي شبه إجماعٍ لأعضاء الأمم المتحدة ولا حتى الأحكام الصادرة بحق الكيان في محكمة العدل الدولية ، وفي المحكمة الجنائية الإنسانية ، وكل ذلك يدل على أن القضية الفلسطينية ، هي قضية العرب المركزية ، وهي الأولى في المواجهة مع الكيان الصهيوني ، لتؤكد أنها ليست أزمة حُدود ، بل هي صِراع وجُود ، بين العرَبِ واليَهود ، منذ إختراعِ التِلمُود ، وحتى اليوم المَوعُود …*