من دروس الهجرة… المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين/ بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

الشراع 20 تموز 2023

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{إلّا تنصُروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيزٌ حكيم} سورة التوبة.

إن من رحمة الله تعالى أن أرسل سيدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى الله به الأمة وكشف الغُمَّة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فبعدما كان الكفر قد انتشر في الأرض وأضحى إبليس يصول ويجول بين عقولٍ لا يتبصَّر بها أصحابها وقلوبٍ لا يفقهون بها بعث الله تعالى بحرَ الطهارة خاتمَ المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم فقام يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له المنزه عن صفات المخلوقين، فآمن به بعضهم وأبى الأكثرون إلا الكفر والطغيان والكيد وظنوا أنهم يبطشون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّى لهم ذلك وهو المؤيد بالنصر من رب السموات والأرض، وكيف لشيطانٍ أن يُطفئ الشمس بنفخة غيظٍ انطوى عليها صدره الحقود. وراح المفسدون في الأرضيتآمرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هيهات لمن نصره الله أن يهزمه شيطانٌ وهيهات لمن حفظه الحفيظ العليم أن يغلبه أفَّاكٌ أثيمٌ. قال تعالى:{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} سورة الأنفال. وقوله والله خير الماكرينمعناه أن الله أقوى في إيصال المكر إلى نحورهم وهو يجازيهم على مكرهم، ولا يُسمى الله ماكرًا. وقوله “ليثبتوك” أي ليحبسوك ويوثقوك، وكانوا قد اجتمعوا في دار الندوة (اسم مكانٍ) وتضاربت آراؤهم بين حبسه أو قتله أو إخراجه من مكة ثم استقر رأيهم أن يأخذوا من كل قبيلةٍ فتًى يقومون على بابه بالسيوف فيضربوه إذا خرج ضربة رجلٍ واحدٍ، أرادوا بذلك أن يتفرَّق دمه في القبائل فلا يقدر بنو هاشمٍ على حرب كل العرب فيرضون بالدية. وحمى الله تعالى نبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم وأخرجه من بين أظهرهم سالما محفوظًا منصورًا وخابت وجوههم وعميت عيونهم.

وكانت الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة، واعجب لقومٍ كذَّبوه وآذوه وحاربوه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحرص على هداهم ويسعى لهداية من استطاع منهم إلى نور الحق المبين الذي يسلم ويسعد من اهتدى به في الدارين.

بداية عهدٍ جديد

لقد جاءت الهجرة المباركة تنفيذًا لأمر الله تعالى إذ قد فرض الله الهجرة على المستطيع  من المؤمنين فهاجر المستطيعون منهم، وهناك على أرض المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم طاعةً لله ورسوله والأنصارِ أهلِ المدينة المنورة الذين آوَوْا ونصروا فضربوا أروع الأمثلة في تلك الأخوة حتى كان الرجل منهم يقسم ماله شطرين، أو يكون له بيتان فيتنازل عن بيتٍ منهما لأخيه من المهاجرين، وأشركوهم في أراضيهم زراعةً وحصادًا لا يحملهم على ذلك إلا الرغبة في ثواب الله تعالى يُعاون بعضهم بعضًا على البر والتقوى وينهى بعضهم بعضًا عن الإثم والعدوان، ولم يمنعهم اختلاف الآباء والأمهات والقبائل والقوميَّات من أن يكونوا إخوة في الله، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين حمزة بن عبد المطلب الهاشمي وزيد بن حارثة الكلبي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أبي بكرٍ التيمي القرشي وخارجة بن زهير الخزرجي، وبين عمر بن الخطاب العدوي القرشي وعتبَان بن مالك الخزرجي، وبين أبي عبيدة بن الجراح الفِهري القرشي وسعد بن معاذٍ الأوسي، وبين أبي الدرداء الخزرجي العربي وسلمان الفارسي، وبين بلال بن رباحٍ الحبشي وأبي رُويحة الخثعمي العربي. ولو راجعنا هذه الأسماء وغيرها من أسماء الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم لوجدنا أن تلك المؤاخاة لم تُقم وزنًا للاعتبارات القبلية أو الفوارق الطبقية بل جمعت بين القوي والضعيف والغني والفقير والأبيض والأسود والحر والعبد والعربي والعجمي وبذلك استطاعت هذه الأخوة أن تنتصر على العصبية القبلية النتنة وغيرها من نوازع النفس الأمَّارة بالسوء واتحدت أفئدتهم على قلب رجلٍ واحد. قال الله تعالى:{واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} سورة آل عمران. هذه المؤاخاة التي لو لم يُشر إليها القرآن العظيم ولم تأت النصوص النبوية والشواهد التاريخية بإثباتها لربما أنكرها كثيرٌ من الناس وزعموا أنها من نسج الخيال، وذلك أن مشاهدها وأحداثها وما قدَّمه الصحابة الكرام فيها من أعظم وأجلِّ ما قُدِّم في تاريخ الأمم أجمع.

وكانت الهجرة المباركة بحقٍ بدايةً لتأسيس الدولة الإسلامية المجيدة وكانتالمواجهات العسكرية التي أعز الله فيه الحق وأذل الكفر وأهله، ومع دخول السنة الثامنة للهجرة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا ونسخت فرضية الهجرة فعن عبد الله بن عبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيةٌ” متفقٌ عليه. وحمل الصحابة مشاعل النور للدنيا فدانت لهم البلاد شرقًا وغربًا في مدةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، ولا نزال نحن اليوم وبعد مئات السنين والسنين نهتدي بتلك التعاليم السامية التي حملها الصحابة عن معلم الناس الخير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس.  

ولأجل ما حملته الهجرة من معانٍ جليلةٍ وما انطوت عليه صفحات هذا الحدث التاريخي العظيم رأى الخليفة الملهَم عمر بن الخطاب أن يؤرخ للأمة بالهجرة،ولم يكن قبل ذلك للعرب تاريخٌ جامعٌ يتفقون عليه، فقد أرّخَ بعضُهم من موت كعب بن لؤي وهو الجد السابع للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرَّخوا بعام الفيل وهو العام الذي أراد أبرهة فيه هدم الكعبة فأهلكه الله بالطير الأبابيل، وأرَّخ بعضهم بأحداثٍ أخرى حتى جمعهم سيدنا عمر رضي الله عنه على التأريخ بالهجرة، وما زال العمل عليه جاريًا إلى يومنا هذا.

ومع دخول العام 1445ه أسأل الله تعالى أن يجعل هذه السنة سنة خيرٍ على بلادنا والأمة الإسلامية. والحمد لله أولًا وآخرًا.

مجلة الشراع