لبنان بين رئيسين… المستقوي بطائفته والقوي بشعبه

كتب (عامر امين ارناؤوط)

يعدّ تاريخ الرؤساء اللبنانيين، مرآة صادقة لتاريخ جمهورية، شاء القدر أن تولد من رحم انتداب متحيز، لأحد مكوناتها لم تكن لديه جرأة ترك الحرية لشعبه، في تقرير مصيره بذاته، ففرض عليه انتداباً ثقافياً، ومالياً، وسياسياً، امتد لعقود طويلة، وما زالت آثاره – وإن ضعفت- حاضرة في الكثير من مفاصله، ومؤسساته.

 

هذه الجمهورية،التي حُكمت لعقود بعقلية قروية معادية “للمدينة” اساساً، ما جعلها تحمل بذور الشقاق الداخلي، وضيق الأفق، وقصر الرؤية، وتواضع الأهداف، وإن مرت بعض تلك الأيام بإشراقات، حملها لهذا الكيان بعض من كانت لديه طموحات كبيرة، تجاوزت حدود الرؤية الضيقة، التي سار على نهجها الكثيرون، ممن تصدّر المشهد السياسي اللبناني.

التاريخ اللبناني، لم يعرف انعطافة هامة، إلا بعد إقرار وثيقة الطائف، التي أنتجتها تفاهمات أميركية، وسعودية، وسورية، قضت برعاية لبنان – الخارج تواً من الحرب – لإدخاله في مرحلة السلم عبر معادلة، زاوجت بين الإقتصاد، والسياسة، فالإعمار والإنتاج المالي، والإقتصادي، تحت رعاية سعودية، والأمن، والسياسة الخارجية، تمران بتفاهمات أميركية سورية آنذاك، ضمن رؤية ما كان يسمى بـ“عملية السلام” في تلك الحقبة.

هذا اللبنان “الطائفي”، نسبة للطائف عرف اختلافاً في أنواع الرؤساء فيه، بحسب الظروف، وطبيعة العملية السياسية، فالرئيس رنيه معوض، لم يكن على قياس التفاهم الثلاثي السعودي، والسوري، والأميركي، بل أراد لرئاسته العودة، إلى خامة الرؤساء ما قبل الطائف، ما جعل ولايته تنتهي قبل أن تبدأ.

لتفتح صفحة الرئيس الأهم، في تاريخ الطائف، والذي أجاد تدوير الزوايا، والتكيف مع التغيرات الجديدة، حيث لعب الرئيس الياس الهراوي، بالفعل دور الرئيس الحكم، والضامن لوحدة الوطن اللبناني، والرمز لاستقلاله، ولسيادته.

واستمر ذلك، حتى دخلنا في مرحلة سياسية جديدة، تجلت في تطور العلاقات السورية الأميركية، بعد حرب الخليج الأولى، ومشاركة سوريا في القوات المتعددة الجنسية، في الحلف الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، لتدمر فيه أهم الأسوار العربية آنذاك، منذرة بانهيار مرحلة من الحصانة، والمنعة العربية، لحساب عملاء أميركا في المنطقة، وعلى رأسهم إيران وسوريا، ما جعل التفويض الأميركي للسوريين في لبنان، يتيح لهم تعيين الرئيس إميل لحود، أحد أهم رجالات الأسد فيه، والذي جعل سياسة لبنان الخارجية، جزءاً لا يتجزأ من سياسة الدولة السورية، وأمكن للنفوذ السوري في التغلغل إلى مفاصل الدولة اللبنانية العميقة، وليقوم بدوره في عرقلة مسيرة إنماء الرئيس رفيق الحريري الإقتصادية، والوقوف في وجه التحول نحو الدولة المدنية، التي تحكم بالقانون، وتحارب الفساد، فكانت سياسات إفشال باريس، واحد وإثنان واضحة للعيان.

ولاية لحود انتهت بسياسة تعطيل، شكل 7 أيار ذروتها، ما أدخل البلاد في محاولة تعديل للطائف بالقوة في تفاهم الدوحة، الذي أعطى الطرف السوري الإيراني الفيتو، وقدرة التعطيل بشكل قانوني، وزاد في الطين بلة، في عهد ميشال سليمان، وتحت عنوان “مكافحة الارهاب”، وسياسة الإنكفاء الأميركية في عهد الديمقراطيين، والرئيس أوباما، ما أنتج تفويضاً من جهة لسوريا، وحلفائها في لبنان وتخلياً عن ضمان التوازن فيه، عبر إخلاء الساحة بالكامل، لإيران وحلفائها، وعلى رأسهم حزب الله الذي صال وجال، وتحكم بالدولة، وصولاً إلى تعيين الرئيس ميشال عون، في إطار إنتخابات شكلية، جاءت بقوة نفوذه، وترجمة لسلطانه المتمادي في لبنان، والإقليم عموماً.

هذه الولاية وهي الأكثر سوءاً وسوداوية، في تاريخ ولايات ما بعد الطائف، حكم مفاصلها الفساد، واستشراؤه، وانتشاره، واستباحته لكل الدولة، من أدناها إلى أعلاها، وصولاً إلى الإنهيار المالي، والإقتصادي، بفعل سياسة الإنحياز الأعمى للمحور الإيراني السوري، ومحاربة الشركاء العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، ما وضع لبنان الآن خارج مفاعيل الطائف، وأمام خيارين لا ثالث لهما، إما العودة إلى التحارب، والتقاتل الداخلي، أو إعادة إنتاج لتسوية الطائف على قاعدة الدولة القادرة، والحرة، والسيدة، والمالكة لاقتصادها، والمحاربة للفساد فيه، بما يتيح استثماراً جيداً لمقدراتها.

من هنا فإن معركة الرئاسةاليوم، هي بين رئيسين رئيس يستقوي بطائفته، أو طائفة تدعم وجوده بقوة السلاح والتعطيل، ورئيس قوي بشعبه، وشرعي بتمثيل نواب أمته، من المسلمين والمسيحيين.

الرئيس النظيف الكف،البعيد عن الفساد، المتصالح مع النسيج العربي، والمنتمي إليه، البعيد عن المحاور الخارجية، المنفتح على دور لبنان المستقبلي الإقتصادي، والبعيد عن اصطفاف 14 و 8 آذار والقريب جداً، من شعب تشرين، وطموحاته، وأحلامه.

هذا الرئيس، الذي سيكون الفيصل بين لبنانين، لبنان حزب الله، والانعزال، والفشل، ولبنان العربي الهوية، والانتماء، والقوي بشعبه، وتمثيل نواب أمته.

هذا الرئيس إن تم في لبنان، فسيكون فاتحة تغيير كبيرة، ستمتد لباقي الرؤساء، وليشهد لبنان بعدها أكبر ورشة إعادة بناء، وترميم، وإنتاج لدولة أنهكها التردي، وحكمها الفساد لعقود.

لبنان الغد، بعد انتهاء الأيام السود، من ولاية الرئيس ميشال عون سيكون لبنان الطموح، وإلا فإن النقطة في آخر سطر ولاية الرئيس المنتهية ولايته، ستكون نقطة الختام “لفكرة”، ظنّ منظّروها أنها ستكون يوماً شاهداً، على قدرة الإنسان على العيش مع أخيه الانسان.

لأن أي تراجع أو تسوية بعد اليوم، ستكون جريمة بحق من تبقى من لبنانيين، يؤمنون بقيامة بلدهم، وقدرته على الحياة بعد الموت.