مقالة للدكتور سابا قيصر زريق كما نُشرت في جريدة “البيان” ليوم األربعاء الواقع فيه 11/5/2022

“أهل مكة أدرى بشعابها”

          بقلم د. سابا قيصر زريق

ما اختياري ك عنوان لهذه المقالة للمثل العربي المأثور إال لإلضاءة على أبرز مساو ئ قانون الإنتخاب الساري حاليا وهو الذي يحفل بها. لجأ الم شرعون المغرضون والمستفيدون، عند صياغة وإقرار هذا القانون، إلى حي ل رفض الرماد أن يجد طريقه إلى أية أعين ليذ رها فيها، وذلك لسذاجتها المفضوحة. فُ ، كانت لتحرمها أصوات ِّ صل القانون على قياسات أجسام هزيلةكانت لتحرمها أصوات الناخبين من مقعدها في المجلس النيابي لواله. وما كان هذا “التفصيل” ليستقيم لو أنهم لم يمزجوا فيه “النسبية ” المبتورة بـ”صوت تفضيلي” تعسفي بامتياز، يشجع لا بل يفرض على المقترعين مفاضلة عند الإدلاء بأصواتهم تعزز التنافس بين افراد اللائحة الواحدة. وتوج أولئك المشرعو ن العباقرة ارتكابهم هذا بتقسيم لبنان الى دوائر انتخابية مو سعة في الشكل ليس إلا، وطائفية في المضمون؛ متذ رعين بما ورد في اتفاق الطائف. فتفننوا باللعب على مضمون ذلك الاتفاق على  نحو يضمن الفوز لهم والفشل لأخصامهم في دوائر محددة. أي أنهم ألبسوا القانون ، الأرثوذكسي قناعا شفافا، حارمين أبناء مذهب معين من حرية إختيار مرشح من عدد من المرشحين المنتمين الى مذهبهم.

أتى القانون هذا ملونا ،مظهرا  وجوهرا،كثياب المهرجين في السيركات العالمية . وما أفسح للمشرعين الفطاحل المجال واسعا عدم وجود قانون للأحزاب في لبنان كان، لو وجد،لنظم بعض الشيء كيفية اشتراك الأحزاب في الإنتخابات العامة، علما أن مبدأ النسبية الأمثل يقضي بأن تشكل اللوائح الإنتخابية على أسس حزبية، على غرار ما يجري في الديمقراطيات الحقيقية. وما يزيد الطين بلَة هو أن لبنان ما زال يعتمد، لتنظيم الأحزاب السياسية، على قانون الجمعيات العثماني لسنة 1909 الذي بلغ من العمر قرنا كاملا  وأكثر من عشر قرنا.

إن مجرد مراجعة تقسيمات الدوائر الإنتخابية الحالية يفضح مراميها الفعلية وأسوأها تأجيج الطائفية البغيضة. ففي شمالنا مثلا ، شمال مسلم وشمال مسيحي وشمال مختلط ! مجموعة أقضية  ُجبلت ببعضها دون جدوى فعلية، لأن الأصوات في الصناديق سوف تثبت لا محال، كما بيَنت  نتائج انتخابات 2018 ،أن المقترعين سوف يُدلون بأصواتهم التفضيلية لصالح من يرونه ممثلا عنهم من أبناء قضائهم و ِّملتهم ، دون أي ضمانة له بالفوز، حتى ولو حاز على أكثرية الأصوات  التفضيلية ولم تحز لائحته حواصل كافية. يسقط إذا الوهم الذي اختلقه المشرعون بأن القانون  الحالي هو الوحيد الذي يحقق تمثيلا عادلا لإرادة المقترعين .

إن قانون الانتخاب المعتمد حاليا يفتقر إلى أدنى مقومات الديمقراطية الحقيقية، كونه يسلب حرية اختيار المقترع ويفرض عليه ممثلين لا يمثلونه ولا حتى يشبهونه . فمنهم من يفوز بأصوات متدنية جدا، عندما تستنفذ الحواصل التي تنالها اللوائح المنافسة وإن حاز أبناء من ملته فيها أصواتا أكثر من أصواته.

كما وثبت على نحو ال يحتمل الشك أو التبرير أن اعتماد الدوائر المو سعة ال يفضي بأي شكل من الأشكال إلى إنعاش الوحدة الوطنية، أي إتاحة الفرصة للمسيحي أن يصوت للمسلم وللسني أن يصوت للعلوي أو للشيعي، والعكس بالعكس. إذ أن “الصوت التفضيلي” أعاد تحريك العصبيات المذهبية، فعطل النوايا الحسنة (مع التشكيك بهذه النوايا بالطبع )الذي ادعى المشرعون أنها من الأسباب الموجبة للقانون.

غير أن الطامة الأخرى هي أن يُطلب من مقترع أن يصوت للائحة تضم مرشحين عن مناطق هو في الحقيقة غريب عنها ولا يدري أي شيء عن شؤونها وشجونها، إلا ربما القليل القليل في أحسن الأحوال. فمن شأن ذلك تشتيت أذهان المقترعين وحملهم ، بمجرد التصويت لمرشحهم المفضل على التصويت حكما لعدد من المرشحين المكونين للائحة ما ربما لم يسمعوا بهم على  الإطالق من قبل.

ولكي لا يكون كلامي هذا من باب الإضاءة على المشكلة دون اقتراح حلول، ولما كنا نعيش في مجتمعات هي أقرب إلى القبلية إذا صح التعبير، ينبغي علينا، في غياب أحزاب منظمة ، وفق قانون عصري وواضح، يسمح لها بخوض المعارك الانتخابية على أساس مبادئ سياسية وبرامج سياسية واجتماعية، أرى أن الحل هو في اعتماد القضاء كدائرة إنتخابية، وإن لفترة مرحلية، لريثما يسن قانون الأحزاب يسمح للمقترعين بأن يختاروا ممثلين عنهم من عداد مرشحين عن القضاء هم يدركون خلفياتهم وأحوالهم وسيرهم ومسيراتهم. أوليس أهل مكة أدرى بشعابها؟ ويمكن اعتماد هذا المبدأ دون المس في التوزيع الطائفي والمذهبي في كل قضاء وينبغي، انسجاما مع ما سبق، أن يحظر المسجلين في القضاء أو غير الذين أقاموا فيه لفترة زمنية طويلة نسبيا، أن يترشح عن مقعد نيابي فيه. وقد يشجع هذا النظام الانتخابي الناخبين على الاقتراع، على أن يفوز الأوائل في الطائفة أو المذهب المخصص للقضاء.