الخدمات الاعلامية

الصِّحة والفراغ / بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 16 أيلول 2021

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى:{وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون وستُردُّون إلى عالم الغيب والشَّهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ” رواه الترمذي وغيره.

نرى كثيرًا من الناس لا يعرفون قدر نعمتي الصِّحة والفراغ كما أفهم قوله صلى الله عليه وسلم: “مغبونٌ فيهما” فلا يستفيدون مما آتاهم الله من نعمٍ بدنيةٍ ولا من تلك الأوقات الطويلة التي ليس فيها ما يُقلقُهم ولا ما يشغَلُهم على النحو المطلوب إنما يُذهبون ذلك فيما لا خير فيه من لهوٍ ولعبٍ وإثمٍ ولا يتنبَّهون لقيمة الأوقات التي يهدرونها، حتى إذا ما ضاعت السنوات وانقضت أكثرُ الأنفاس ولم يبق من العمُر عادةً أقلُّ من رُبع ما مضى، وفارقتهم الصِّحة وحلَّ بهم السَّقم وفتكت بهم الأمراض فتكًا ذريعًا، وفارقهم الفراغ ليشغلهم الداء بالاهتمام لأمر التداوي وتعهُّد البدن بالنظر فيما يُصلح هذا الجسد الذي أنهكه ما كان من التَّفريط في أيام الشباب، حَزِنوا وتأسَّفوا، ولربما كان هذا الحزنُ وهذا الأسى من بعض الناس توبةً وهذا شىءٌ حسنٌ وإن جاء متأخرًا فلأن تصحو من غفلتك ولو متأخرًا خيرٌ لك من أن لا تصحُو بالمرة.

انظر ماذا تُقدِّم

 ولكنَّ المؤسف حقًا أن بعض هؤلاء يتحسَّرون عند الكِبَر وضعف البُنيةِ على ما فاتهم من المجون الذي كانوا عليه في سن الشباب وما عاد باستطاعتهم فعل مثله مع هذا السن. وترى أحدهم يتنهَّد ويردد بلوعةٍ شعرَ أبي هلالٍ الأسدي:

ألا ليت الشباب يعود يومًا                               فأخبره بما فعل المشيب

وهل نشأتَ أيها الغافل في مقتبل عمرك نشأة الشافعي أو نشأة صلاح الدين الأيوبي أو كنت علمًا من أعلام الأمة مغمورًا بين ناسٍ ما عرفوا قدرك لتقول مثل هذا؟ أم كان دأبُك فيما مضى اقترافَ الحرام والفساد والانحراف ولا تجد اليوم إلا أن تتغنَّى بالشعر؟! وحقيقة الأمر أن هذا داءٌ مرير يستحكم في نفوس ضعاف النفوس، وجديرٌ بهؤلاء أن يبكوا على فوات ما قد فات وأن يُدركوا قيمة الصِّحة التي كانوا يتقلَّبون فيها والفراغ الذي ضيَّعوه فضاعت أعمارهم فيما لا خير فيه. وكم سيكون ندمُ البعض كبيرًا يوم القيامة؟ فقد روى البيهقي عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ عن عُمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمِلَ به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه” وفي روايةٍ عند الطبراني: “وعن شبابه (بدل جسمه) فيما أبلاه”. فمن علم هذا فكيف يطيب له أن يُذهب الأنفاس تلو الأنفاس سدىً وأن يسترسل في اللهو لا سيما في فترة الشباب ثم لا ينظر في محاسبة نفسه ولو ساعةً من نهار ولا يتنبَّه إلى أن الوقت من ذهب وإن لم يصرفه في طاعة الله ذهب. وقد قيل في الأمثال: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك” وقد عقد الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه “صيد الخاطر” فصلًا سمَّاه “المحافظة على الوقت”.

المغبون والمغبُوط

وإذا ما عُلم هذا فنقول: إن الصحة والفراغ نعمتان عظيمتان من نعمِ الله لا يتيسَّران للشخص كل حين فإن الصحةَ يعقُبها المرضُ والفراغَ يعقُبه الشُّغل، فإنْ منَّ اللهُ عليك بعافيةٍ في البدن أو فرَاغٍ في الوقت فلا تكن مغبونًا بذلك كحال أكثر الناس فإن هذين الأمرين إن لم يُستعملا فيما ينبغي فقد غُبن صاحبُهما، والغَبْنُ هو الخِداع في البيع، والغَبَنُ الضَّعف في الرأي، والمعنى أن من لم يستعمل هاتين النعمتين فيما ينبغي فقد غُبنَ لكونه باع غاليًا ببخسٍ ولم يُحمَد رأيه في ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: “قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرِّغًا لشُغلهِ بالمعاش وقد يكون مُستغنيًا ولا يكون صحيحًا فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطَّاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط (أي السعيد الذي يُغبط أي يتمنى الواحد أن يكون مثله) ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ يعقُبُه الشغلُ والصِّحةَ يعقُبها السَّقَم”.

وإذا ما كان التَّاجر يبتغي الربحَ مع بقاء رأس المال فيتحرَّى في معاملته الحذقَ لئلا يُغبن فإن الصِّحة والفراغ كرأس المال بالنسبة لك فإن غُبِنت حتى ذهب ذلك منك ندمت ندمًا شديدًا، وإن اغتنمت ذلك كان لك ذخرًا باقيًا عند ضعف البُنية وطروء الأشغال ولقد قيل:

يسرُّ الفتى طولُ السَّلامة والبقا                        فكيف ترى طول السَّلامة يفعل

يرُدُّ الفتى بعد اعتدالٍ وصِحَّةٍ                          ينوء إذا رام القيام ويُحملُ

وينوء أي يتعب وتلحقه مشقة شديدة إذا رام أي أراد القيام والنهوض ويُحمل من قِبل المعاون له لما يلحقه عند طول العُمر من الضَّعف الشديد. وقد عرف سلفنا الصالح ومن بعدهم من أهل الفضل والتيقظ قيمة الوقت وأهمية الصِّحة فحافظوا على ذلك في حياتهم وحرصوا على اغتنام هاتين النعمتين في الأعمال الصالحة فجعلوا الدنيا لجةً وصالح الأعمال سُفنًا يعبرون بها إلى اليوم الموعود، وفي ذلك روي عن الحسن البصري أنه قال: “أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم”. وجهل أو تجاهل ناسٌ قيمة الوقت فأفنوا أعمارهم وأيامهم فيما سيكون وبالًا عليهم يوم القيامة وغرَّهم الأمل فاستكانوا لوسوسة الشيطان فهلكوا مع الهالكين.

فجديرٌ بمن رزقه الله صحةً وفراغًا أن ينظر في برنامج يومياته ليُصحِّح مساره ويستفيد من هاتين النعمتين، وإذا كان عمُر الإنسان لا يسع كل شىء فالعاقل من قدَّم الأهم على المهم ولا شك أن أهم المهمات طاعة ربك بدل طاعة فلانٍ وفلانٍ في معصية الله كحال أغلب أهل الدنيا ولكن من لم يعرف قيمة الوقت والصِّحة سهل عليه التَّفريط بأنفاسه.

والحمد لله أولًا وآخرًا.

 

مجلة الشراع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi