الإجماع حجَّة معتبرة / بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 9 أيلول 2021

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ومن يُشاقق الرسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونُصله جهنمَ وسآءت مصيرا} سورة النساء.
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لا يَجْمَعُ أُمتي أو قال أمة محمد على ضلالة” رواه الترمذي.
لقد حفظ اللهُ تعالى أمةَ سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من أن تتفق على خطأ فإذا أجمعت الأمةُ على أمرٍ فهو حق بلا ريب فقد يُخطئ فردٌ أو أفرادٌ من الأمة في بعض المسائل لكن لا يجتمع أئمةُ الأمة على ضلال أبدًا. والإجماع في اللغة: لفظٌ مشتقٌ من أجمع وهو فعلٌ له معنيان: أحدهما “عزَمَ” فيقال: أجمع أمره أي نوى فعلَه، قال تعالى:{وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب} سورة يوسف، أي عزموا أن يُلقوه في الجب أي البئر. والمعنى الآخر. “اتفق” فإن اتَّفق الناسُ على أمرٍ كان اتِّفاقهم إجماعًا. قال تعالى:{فأجمعوا أمركم} سورة يونس. فالإجماع يشترك فيه معنى العزم والاتفاق لأن الناس إذا اتَّفقوا على أمرٍ فقد عزموا عليه، وأما في اصطلاح الفقهاء فالإجماع هو: “اتفاق المجتهدين من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم على مسألة من المسائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصرٍ من العصور”. ونعني بالمجتهدين من اجتمعت فيهم شروطُ الاجتهاد كالأئمة الأربعة وغيرهم من أكابر العلماء، وهي شروطٌ قلَّ أن تجتمع في عالمٍ ما وقد مرَّ الكلام في تلك الشروط في مقالٍ سابق بعنوان “الاجتهاد والتقليد” فلينظره مريدُ الفائدة، أما غير المجتهدين فلا ينعقد بهم الإجماع.
وبالتالي فإن ما يحصل اليوم من اجتماعاتٍ ومؤتمراتٍ يُقرر فيها بعض الشيوخ مسائل ينفردون بها وليس فيهم مجتهدٌ أو يُخالفون فيها ما سبق أن انعقد عليه الإجماع لا يُعتدُّ به ولا يُعوَّل عليه، ولا تكفي الشهرة ليصير الشيخ مجتهدًا.
دليل الإجماع
فإن سأل سائل: كيف عرفنا أن الإجماع حُجَّة؟ فالجواب: قد دلت على ذلك عدةُ نصوصٍ من الكتاب والسنة منها الآية والحديث أعلاهما، قال السيوطي في “الإكليل”: “قوله تعالى: “ومن يُشاقق الرسول” الآية استدل الشافعي وتابعه الناس بقوله: “ويتَّبع غير سبيل المؤمنين” على حجِّية الإجماع وتحريم مخالفته لأن مخالفَه متَّبِعٌ غيرَ سبيلِ المؤمنين وقد توعَّد الله عليه”.
فمن سلك غيرَ سبيلِ المؤمنين أي انتهج خلافَ ما أجمع عليه المجتهدون هلك فإنه لا يسوغ لأحدٍ مهما كان شأنه أن يشذَّ عن إجماع الأمة، فقد روى الإمام أحمد عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود قال: “ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح”. ومراده ما رآه الأئمة المسلمون لا العوامّ الذين يفتقرون إلى الميزان الشرعي.
وقد تقرَّر في المذاهب الأربعة أن الإجماع حجة قطعية ونقل ذلك كثيرٌ من أهل العلم منهم: القاضي حسين الشافعي في “التعليقة” وابن عابدين الحنفي في “رد المحتار” والمازري المالكي في “شرح التَّلقين” والبُهوتي الحنبلي في “كشّاف القناع” وغيرهم بل نقل الإمامُ أبو منصورٍ البغدادي في كتابه “الفَرقُ بين الفِرق” إجماعَ الأمة على حُجِّية الإجماع ونصُّه: “واتَّفقوا (أي أهل السنة والجماعة) على أن أصول أحكام الشريعة القرآن والسنة وإجماع السلف” وليس معنى قوله: “وإجماع السلف” أن الإجماع لا ينعقد إلا في القرون الثلاثة الأولى من عصر النبوة إنما فيه إشارةٌ إلى كثرة الاختلاف الذي أصاب الناس بعد تلك العصور، وإلا فالإجماع ينعقد بشروطه كمَّا بينَّاه فبطل بذلك دعوى من لا يرى بأسًا في الخروج عمَّا أجمعت عليه الأمة ومخالفة ما جرى عليه المؤمنون من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا، وهذا من أخطر المخاطر إذ إن نقض الإجماع يكون في بعض الأحوال خروجًا من الدين بسبب معاندة الشرع أي أن الشخص يكذّبُ دينَ الله مع علمه بما عليه المسلمون.

مخالفة الوهابية للإجماع
وكم نرى ونسمع من أدعياء السلفية نقض الإجماع في الأصول والفروع وهم في ذلك على خطى شيخهم ابن تيمية الذي خرق الإجماع في ستين مسألة بعضها في أصول الدين وبعضها في الفروع أي الأحكام العملية كما قال الحافظ العراقي في “الأجوبة المرضية” ونقل كثيرًا من تلك المسائل الشَّاذة ابنُ طولون في “ذخائر القصر”.
ومن أبرز ما خالف فيه ابنُ تيمية والوهابيةُ إجماعَ الأمة المنعقدَ على تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين ووجوب اعتقاد أنه تعالى لا يتحيَّز في السماء ولا تحويه الأنحاء، فاعتقدوا التجسيم وصرَّح ابن تيمية بأن الله يجلس على العرش ويُجلس محمدًا معه يوم القيامة كما في كتاب “مجموع الفتاوى”. وصنف أبو محمد الدشتي الوهابي  والعياذ بالله  كتابًا سمَّاه “إثبات الحد لله” وكفَّر فيه من نزَّه الله عن الجهة والمكان، والحقيقة: أن عنوان كتابه كفرٌ وليس الكافر من نزَّه الله عن الحد. لقد انعقد إجماع المسلمين على تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وقام البرهان على ذلك من الكتاب والسنة أيضًا وقد قدَّمنا الأدلة في هذا الخصوص في مقالاتٍ سابقة لذلك أكتفي هنا بذكر الإجماع على التنزيه الذي ضربت به الوهابيةُ عرض الحائط وهو منقولٌ عن الإمام أبي منصورٍ البغدادي في “الفرق بين الفِرق” ونصُّه: “وأجمعُوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان خلاف قول من زعم من الهشامية والكرَّامية (فرقتان ضالتان) أنه مماسٌّ لعرشه وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إن الله خلق العرش إظهارًا لقدرته لا مكانًا لذاته. وقال أيضًا: قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان. وأجمعوا على نفي الآفات والغُموم والآلام واللذات عنه وعلى نفي الحركة والسكون عنه”. فإذا علمتَ هذا ورأيتَ خلاف الوهابية لما أجمع عليه أهل القبلة وما ذكرته إنما هو قليلٌ من كثيرٍ مما خالفت فيه هذه الفرقةُ المؤمنين فإيَّاك أن تغترَّ بما تزخرفه الوهابيةُ أو غيرهم ممن يشتهون الشهرة فيتكلمون بغرائب هي على خلاف ما أجمعت عليه الأمة ويزعمون أنهم أول من انكشفت لهم تلك المعاني، فعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”فاتبعوا السوادَ الأعظمَ فإنه من شذَّ شذَّ في النار”. فأفهمنا أن اتباع طرق الأئمة المعتبرين من الصَّحابة وآل البيت والتابعين والسلف والخلف حق ومن شذَّ أي انفرد برأيه على خلاف إجماعهم استحق النار.
والحمد لله أولًا وآخرًا.