مساهمة من الأستاذ مروان الخطيب

قامةٌ من حَرفٍ وسنديان…!،

أو

كأنَّكَ تُجالسُ غسان كنفاني…!

 

-إلى أستاذنا المُربي الكبير مصطفى سعدي الخيَّاط*-

 

ما أجملَ الزَّمانَ حينَ يحملُكَ إلى ماضٍ بعيد، فتعيشُ الغابرَ أرضاً مُزنَّرةً بالأخضرِ والشِّعرِ والعِلمِ والوَشْوَشاتِ المُخمَليَّة!.

وما أرحبَ الذَّاكرةَ، حينَ يكونُ مَجلِسُها معَ قامةٍ علميَّةٍ وتربويَّةٍ ونضاليَّةٍ، بحجمِ مصطفى سعدي الخيَّاط، الذي تخرَّجَ على يديهِ ثلاثونَ ألف طالبٍ أو أقل قليلاً، وشُرِّفتُ إذ كُنتُ واحداً منهم…!.

هو ذا مُعلِّمي وأستاذي، قامةٌ تسعينيَّةٌ عَبُوقٌ بذاكرةِ الحَرفِ والبيلسانِ والزَّيزفون، وشَفُوفٌ حَدَّ التَّماهي معَ النَّدى وألقِ الإبداعِ في نتاج غسَّان كنفاني، الذي كانَ ذاتَ نضالٍ رصينٍ رفيقَ دربِهِ في مسيرةِ الحُلمِ بالانتصارِ والظُّهورِ على المُحتلِّ الغاشمِ السَّالبِ فلسطينَ من أهليها وأمَّتِها…!.

…، أتفرَّسُ في وجهِهِ،

ألمحُ قلبيَ المُتْعَبَ في عينيه، وأعودُ سابعةً إلى كلماتِهِ العَوابقِ بالودِّ ورُحاقِ الأُلفةِ، فأراني مُصَّاعداً إلى رَوَاسي الاندغامِ بأنفاسٍ رساليَّةٍ، لا تنحني، لا تذبلُ، ولا تَميدُ أبدا…!.

هو ذا مُعلِّمي، كما عَرفتُهُ منذُ أربعينَ عاماً: رُكنٌ من هَدْأةٍ واطمئنان، كِتابٌ من صُبحٍ وأقحوان، رَهافةٌ من حَبَقٍ وشقائقِ النُّعمان، وارتحالٌ عَبَقِيٌّ بينَ القُدسِ والقَاهرةِ ودمشقَ وبغدان، وانسكابٌ نُورانيٌّ بينَ قرطاجَ وغرناطةَ وتَطوان…!.

…، وله وجهٌ لا يشبهُ إلَّا الزَّيتونَ وزهرتي اللَّوزِ والرُّمان، لكأنَّهُ يحملُ في أعماقِهِ الجِينيَّةِ، ما كان يتدثَّرُ به شاعرُ العراقِ الكبير الرَّاحلُ سَعدي يُوسف، من قُدرةٍ فريدةٍ في إدارةِ الحوارِ بين الأصحابِ والخِلَّان، حين تطفحُ كأسُهم بزَبدِ الاختلافِ والعِناد، فيُعيدُ المِياهَ إلى مجاريها، بهِمَّةِ الأوفياءِ التي تُحاكي صبرَ الأولياء…، بل لكأنَّهُ ميخائيل زوشينكو، يتغلَّبُ على البَرْدِ القارسِ انتصاراً للكَلِمِ على الكآبةِ والمَخَاوفِ، وانبعاثاً لرِوايةِ الرُّوحِ تجمعُ أشتاتَ النَّفسِ في مَراقي التَّحنانِ والأرجوان…، بل لكأنَّهُ رُوعُ ستانلي كربنر، ونبضُ جوزيف ديلارد، في كتابيهما “التفسيرُ الإبداعيُّ للأحلام”، فيستحثُّ فيكَ قُدرةَ الخَوضِ من أجلِ تحصيلِ المَعرفةِ الثريَّةِ، حتَّى من ساحِ  الأحلامِ التي تتوقَّدُ بها الذَّاكرةُ في ساعاتِ السُّبات…!.

مصطفى سعدي الخيَّاط…!،

ها أنذا أقرأ فيك سيرةَ الأباة، وأغوصُ في تفاصيلِ وجهِكِ ثانيةً وسَابعة، فأشتَمُّ عِتقاً يُحاكي ما في لوحةِ (بوابة الجَامع الأمويِّ الكبير)، فأقرأُ من جديدٍ ألوانَ غوستاف بورنفايند، فأقعُ على هديلِ الحَمامِ الشَّاميِّ يحملُ رسالةَ الجَمالِ والحُبِّ والسَّلامِ والفلاحِ للأرض، تلك التي سعى إليها جاهداً عُمر بنُ عبد العزيز، ذاتَ عدالةٍ سماويةٍ نابتةٍ ومُشرقةٍ في كُلِّ بقاعِ الأرض…!.

ها أنذا أجوبُ في ذاكرتي من كُوَّةِ وجهِكَ الوَقور، فأرى تاريخاً مُجَسَّراً بالأصالةِ والفيروزِ والكَهرمان، كأنَّكَ لغةٌ من فَراديسِ الجَنَّةِ تحفلُ بها الأرض، وقدْ سَبَقْتَ جُوردن بيترسون القائلَ في مدارِ السَّعادةِ:” البحثُ عن السَّعادةِ بحثٌ ساذج، فلنتعاملْ معَها كهَديَّةٍ فقط، فهي زائلة، لذا يجب ألا تكونَ السَّعادةُ هي الهدف.المهم أن نجعلَ السَّلامَ والأمانَ الأهدافَ الحقيقيةَ التي تستحقُّ منَّا التَّعبَ والجهد”…، وقدْ رسمتَ تلك المعارجَ بنبضِكَ الطَّهورِ ورُوعِكَ الوقورِ، فأنْبَتَّ أجيالاً تُجيدُ قراءةَ الحرفِ والسَّعادةِ فوقَ ما قالَهُ بيترسون…!.

في مِحرابِ الحرفِ تعالى،

مصطفى سعدي كالمَرجانْ،

كانَ فُراتاً،

قمحاً أشقرَ،

فوقَ البيدرِ،

كانَ جُمانْ،

كانَ الرَّاوي لحكايتِنا،

يرسمُ عكَّا،

حيفا،

يافا،

نبضَ مِلَقَّةَ،

عطرَ دمشقَ الشَّامخَ سِفْراً،

والمُتنبِّي في بغدانْ،

كانَ يُعاندُ ختلَ الغازي،

يبعثُ فينا نبضَ الغيمِ،

الغيثَ الآتي من عدنانْ،

ويُحاورُنا،

يكتبُ فينا معنى القُدْسِ،

وشوقَ النَّخلِ إلى بَيْسَانْ،

كانَ الشَّادي الأروعَ فينا،

يقرأُ حرفاً فوقَ الهمسِ،

يُسافرُ دوماً للمَيسانْ،

يرسمُ قلبيْ لونَ دلالٍ،

يرغبُ في نصرِ الأوطانْ…!.

ذاكَ الفارسُ كانَ رغيفي،

ماءَ العينِ،

يُحَلِّقُ نبضاً للشِّريانْ…!.

 

مروان مُحَمَّد الخطيب

طرابلس في يوم الأربعاء الواقع فيه 16/6/2021م.

—————————————

* مصطفى سَعدي الخيَّاط: عَلمٌ ومؤلِّفٌ تربويٌّ من لبنان، وقامةٌ نضاليَّةٌ صاحبتْ العديدَ من الأعلام، وعلى رأسهم الأديب الكبير غسان كنفاني. له باعٌ طويلة، وأثرٌ مضيءٌ في حملِ الرسالة التربوية والتعليمية، كان آخرها: مدير ثانوية الحدادين الرسمية للصبيان في مدينة طرابلس.