طالبُ الدنيا وطالبُ الآخرة / بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 20 ايار 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم {قل كُلٌّ يعمل على شاكلته فربُّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} سورة الإسراء.

لو نظرنا في حال أغلب الناس اليوم وما هي غايتهم المرجوَّة من حياتهم وإلى أي مأربٍ يطمحون لوجدنا أن جُلَّ ما يسعون إليه الرفاهية في الدنيا ولو كان ثمن ذلك التملُّق لفلانٍ ومداهنة فلانٍ، بل ولو حمل ذلك أحدهم على أن يُذلَّ نفسه لبعض أصحاب السلطة والثراء، وتراه لا يهدأ له بال ولا يستقر له قرارٌ حتى يصل إلى ما يصبو إليه من غرضٍ دنيوي وربما لا يصل إلى ما يريد فيعيش غارقًا في التعب والذُّل ومحاولة كسب ودِّ زيدٍ واستدرار عطف عمرو، بل ويصرف عمُرَه في الأسفار والترحال من بلدٍ إلى آخر وتطُول غُربته ويُكابد فراق الوطن والأهل والأحباب ليرضى عنه مديرُه أو رئيسه فيزيد في عطائه أو يرفع في درجاته.

ولو نظرنا إلى هذا الشخص نفسه من ناحيةٍ أخرى لوجدناه يتخبَّط في شؤم الذنوب من حيث يدري أو لا يدري فلا يُراعي حُدود الشرع في معاملاته مع الناس، ويريد إصلاح دنياه بفساد دينه ولا يهتم بإصلاح سريرته لينال رضا الله تعالى بل يعيش في غفلة تامة، فهو في حقيقة الأمر أسير الآثام وسجين المعاصي ويحاول طلبَ الدنيا ممن لا يملكها وربما زيَّن له الشيطانُ عملَه فظن أن الله رزقه المال لأنه أحبه وأن له شأنًا عظيمًا عند ربه فيرى أن الكرامة والهوان عند الله بقدر حظه من الدنيا وينسى أمرَ الآخرة بالمرة، ولا شك أن هذا مرضٌ عُضَالٌ قد فتك اليوم بكثيرٍ من أبناء أمتنا مع ما قد دبَّ فيهم أيضًا من الأسقام الأخرى.

علامة المحبة

وإنما وقع أمثال هؤلاء في فخِّ الشيطان وهم لا يشعرون فليست علامة محبة الله للعبد أن تكون أبواب السعادة الدنيوية مفتوحةً له ولا أن يكون ثريًّا أو زعيمًا، فعن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسولَ الله صلى الله عليه

 

وسلم يقول: “إن الله قسم بينكم أخلاقَكم كما قسم بينكم أرزاقَكم وإن الله ليُعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب ولا يُعطي الدينَ إلا من أحب فمن أعطاه الدينَ فقد أحبه” رواه الحاكم.

وكم من أثرياء كان مالُهُم وبالًا عليهم وكم من ملوكٍ دمَّرهم الله وصفحات التاريخ ملأى بالأحداث والعبر.

وربما لا يتيسر لهذا المغرور بعد ذلك أن يهنأ بما جناه وما أكثر أسباب ذلك وهذا حال من جعل الدنيا أكبرَ همِّه: وفي هذا المقام نقول إنه مهما حاز المرء من متاع الدنيا أو ثناء الناس عليه فإن ذلك لا يجعله رفيع الدَّرجات عند الله تعالى ما لم يعمل بأسباب السلامة في الآخرة. ولسنا ندعو إلى ترك الاهتمام بإنجاح الأعمال المهنية أو التجارية أو العمرانية أو غيرها من الأعمال التي تقُوم عليها معايش العباد ولا إلى التكاسل في إنجاز تلك الأعمال والمنافسة فيها بقصدٍ حسنٍ ولا يتعارض هذا مع تعاليم دين الإسلام العظيم، ولكن حريٌ بهذا الغارق في بحر المغريات أن يستيقظ حتى لا تكون الدنيا غايتَه الكبرى فحسب وأن يُصلح أخراه قبل دنياه، فإنه إن أصلح ذلك زكت نفسُه واطمأن قلبه وكفاه الله أمر دنياه، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى يقول: “يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرَك غنىً وأسدّ فقرَك وإن لم تفعل ملأت يديك شُغلًا ولم أسدَّ فقرَك” رواه الترمذي.

فمن أحسنَ العبادةَ لله وأكثرَ من طاعة ربه ملأ الله قلبه غنًى بالعلوم ورزقه القناعة بما قسم له وسدَّ باب حاجته إلى الناس ورزقه من حيث لا يحتسب وجعل له من أمره فرَجًا، ومصداق هذا في كتاب الله تعالى في سورة الطلاق: {ومن يتَّق الله يجعلْ له مخرجًا ويرزُقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكَّل على الله فهو حسبُه}. فيعيش نتيجة ذلك ناعم البال أكثر من الملوك وإن لم يكن ملكًا، وإن لم يفعل ما أمره الله به فتشاغل بالدنيا عن أداء الواجبات واجتناب المحرَّمات ملأ الله يده أي جوارحه (جمع جارحة وهي أعضاء الجسم) شُغلًا فيُتعب نفسه بكثرة التردد في طلب المال والمتاع ولا ينال إلا ما قدَّر الله له ويُحرم من غنى القلب ومن القناعة.

 

 

 

ثواب الدنيا والآخرة

وقد جاء في كتاب “أدب الدنيا والدين” للماوردي أنه قيل لأحد الزُّهاد: لو سألتَ جارك أعطاك. فقال: “والله ما أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها” أي أنه لزهده لا يطلب من الله شيئًا من أمور الدنيا فالأولى أن لا يطلبها من الخلق. إذًا فإن المالك على الحقيقة هو الله تعالى، والله تعالى يقول: {ومن يُرد ثوابَ الدنيا نُؤْته منها ومن يُرد ثوابَ الآخرة نُؤته منها وسنجزي الشاكرين} سورة آل عمران. وقال أيضًا: {من كان يريد ثوابَ الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} سورة النساء.

فمن أراد بأعماله سعادة الدنيا آتاه الله من الدنيا ما قسم له، ومن قصد بأعماله محمدة الناس كان حظُّه ما ينال من ثناء الناس وليس له على ذلك ثواب في الآخرة لأنه لم يرد بعمله رضا الله بل نال الجزاء الذي أراد في الدنيا، قال عزَّ وجلَّ: {من كان يُريد حرثَ الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يُريد حرثَ الدنيا نُؤْته منها وما له في الآخرة من نصيب} سورة الشُورى. فمن سعى لنيل الآخرة زاده الله رفعةً وكرامةً، وكلَّما جدَّ في ذلك أكثر كانت درجته أكبر، ومن أعرض عن الآخرة وجعل همَّه الدنيا فقط ولم يؤمن بالله ورسوله فلا نصيب له من ثواب الآخرة بالمرة.

وكل إنسانٍ يعمل على شاكلته أي على حسب جوهر نفسه كما دلَّت على ذلك الآية أول المقال، فالكافر أو الفاسق يعمل بما يُشبه أخلاقَه فيسعى للمقاصد الدنيوية في مُقابل إهمال المقاصد الأخروية، أما المؤمن  الصالح فلا يبيع باقيةً بفانية بل يعمُر دنياه بالعمل الصَّالح فيكون نفَّاعًا لنفسه وللناس فيصلح له بذلك أمر دينه ودنياه وهكذا شأن العقلاء.

والحمد لله أولًا وآخرا.

 

مجلة الشراع

Comments are closed.