الزكاة ومعنى كلمة “وفي سبيل الله”/ بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 29 نيسان 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قُلُوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيم} سورة التوبة.

أفتى بعض المتأخرين ووافقهم بعض العصريين بجواز دفع الزكاة لكل مشروعٍ خيريٍ متأولين لقوله تعالى: “وفي سبيل الله” بأنها تعني كل عملٍ خيري فأحببت أن أوضح المراد في هذا المقام تنبيهًا للناس ولكن يُناسب قبل ذلك أن نُقدِّم مقدمةً موجزةً فنقول:

ليُعلم أولًا: أنه لا يُعتد بكل خلافٍ وليس كل خلافٍ يقول به أحد أهل العلم يكون معتَمَدًا ولقد قيل:

وليس كل خلافٍ جاء معتبرًا                       إلا خلافٌ له حظٌ من النظرِ

إي إلا إذا كان هذا الخلاف قائمًا على دليلٍ معتبرٍ، وذلك أن النصَّ القرآني أو الحديثي يحتمل أحيانًا وجهين فيترجّح هذا الوجهُ عند هذا الإمام ويترجَّح الوجهُ الآخرُ عند ذاك الإمام بناءً على أدلةٍ قويةٍ أدَّى النظر فيها إلى أن يقول ما قال. هذا إن كان المخالف من أهل العلم المستأهلين كالأئمة الأربعة وأمثالهم وهم الذين يجوز لهم الاجتهاد لأن العالم مهما علت رتبته يجوز عليه الخطأ والصواب، وكُلنا رادٌّ ومردودٌ عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصمته.

لا اجتهاد مع النص

وقد روى الطبراني عن ابن عبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس أحدٌ إلا يؤخذ من قوله ويُدع غير النبي”. وربما صار معلومًا عند أكثر المؤمنين ما كان من خبر سيدنا عمر مع المرأة حين ردت عليه في شىءٍ تكلَّم فيه على المنبر في مهور النساء فرجع إلى قولها وقال: “أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر”. والقصة مشهورة وصحيحة رواها البيهقي في “سننه” وغيره. فإذا ما كان العالم حقًّا لا يجوز تقليده فيما ثبت أنه أخطأ فيه فكيف إذا ما صدر مثل هذا الغلط ممن لا مقدرة له على استنباط الأحكام إنما هو مجرد ناقل لعلوم الآخرين فحسب، فإذا اجتهد من هذا حالُه في المسائل فأفتى بما أداه إليه رأيه فلا يجوز العملُ بقوله بالمرة لأنه تسوَّر رتبةً ليس هو أهلًا لها. وكم يُخالف بعضُهم بفتواه أحيانًا بعضَ النصوص القرآنية والحديثية أو يخالف مذهبَ إمامه الذي ينتسب إليه فيرى بغُروره أنه تفطَّن لما لم ينتبه له إمامُ المذهب وهو في الواقع لا يفقه معنى النصوص الموافق للغة العرب ولا يميِّز متى يكون الأمر للوجوب ومتى يكون للاستحباب ومتى يكون النهي للتحريم ومتى يكون للكراهة وغير ذلك مما ينبغي أن يكون على درايةٍ به قبل أن يخوض في قياس مسألةٍ على مسألةٍ وقبل أن يُقرر ما يرى أنه حكم الشرع، وإذا به يخالف القرآنَ والحديثَ وأقوالَ فحولِ الأئمة: وتعمُّ البلوى بعد ذلك إذا قلَّده في فتواه العوامُّ فتشيع الأخطاء، وربما لم يسمع هذا المغرور أصلًا أنه لا يجوز الاجتهاد مع ورود النص أي أنه إذا دلَّ نصُّ القرآنِ أو الحديثِ الصحيح على حكمٍ ما فليس لأحدهم أن يقول بخلاف ذلك ولو كان مجتهدًا بل يُبيَّن للناس أنه أخطأ حتى لا يُقلَّد في ذلك، مع العلم أن العالم إذا لم يبلغ رتبة الاجتهاد ليس له أن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة أصلًا وقلَّ أن يصل إلى رتبة الاجتهاد أحدٌ من العلماء.

وإذا ما كان المجتهدون زمن السلف بالنسبة للعموم قلَّة فكيف الحال اليوم؟ بل لا نبالغ لو قلنا ربما لا يتجاوز عدد المجتهدين في الدنيا اليوم أصابع اليد الواحدة. وإذا ما عُلم هذا فلا يسوغ لأحدهم أن يُفتي بدفع الزكاة لكل عملٍ خيري احتجاجًا بقوله تعالى “وفي سبيل الله” وهذه فتوى غلطٌ لا يجوز العمل بها.

لمن تُعطى الزكاة

إن قوله تعالى {وفي سبيل الله} لا يعني كلَّ عملٍ خيري كما ظنَّ بعضهم، فإن العطف بالواو كما هو معروف في علم العربية يفيد المغايرة والله تعالى يقول {للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية، فدل العطفُ بالواو على أن هذا الصنف غير الذي قبله وهذا الصنف غير الآخر وهكذا، وبالجملة فلا يجوز صرف الزكاة لغير الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه كما دلَّت على ذلك الآية أعلاه وقد مرَّ في مقال سابق الكلام على شرح كل صنفٍ من الأصناف المذكورة فليُراجَع. والقول بأن قوله تعالى {وفي سبيل الله} شامل لكل عملٍ خيري هو خلاف ما يقتضيه العطف بالواو فلا يصح، إذ لو كان المراد هكذا فلماذا ذُكرت بقية الأصناف ولم يُكتف بكلمة “في سبيل الله” وكلُّ ذلك في سبيل الله.

ومعلوم في نصوص القرآن والحديث أن “في سبيل الله” عند الإطلاق تنصرف إلى الجهاد، فيكون المرادُ بذلك الغزاةَ المتطوعين للجهاد في سبيل الله لإعلاء دين الله، ولا تُصرف لفظة “في سبيل الله” لمعنى آخر بغير قرينة والنصوص في ذلك كثيرة، فمن حملها على كل عملٍ خيري فقد صرفها عمَّا تقتضيه اللغة لغير دليل.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في “أحكام القرءان”: “قال مالك: سُبُلُ اللهِ كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو”. ومعناه أن الإمام مالكًا نقل الإجماعَ على هذا المعنى. ومثله قال النووي الشافعي في “المجموع” وابن قُدامة الحنبلي في “المُغني” والزبيدي الحنفي في “تاج العروس” وغيرهم.

وليُعلم أن الجهاد في سبيل الله ليس هو هذه الحروب العبثية التي يشنها أدعياء الإسلام باسم الإسلام في عدة أقطارٍ اليوم فيُكفِّرون الناسَ بغير حق ويذبحون ويحرقون ويَسْبُون النساء ويأكلون الأموال بالباطل. فإن كل ما يجري في هذا السبيل في هذا العصر هو في حقيقة الأمر عدوان على الإسلام قبل أن يكون عدوانًا على أيٍّ كان، وكم رفع المدعو يوسف القرضاوي عقيرته مُناديًا لدفع أموال الزكاة للمراكز المسمّاة بالإسلامية التي خرَّجت هؤلاء الذئاب الضالة.

وإذا ما عُلم هذا فإننا ننصح مريد الزكاة أن يتحرى الصوابَ لتقع زكاته وصدقته موقع القبول وليكون عمله موافقًا للشرع فإذا كان المرء يحتاط لدنياه فبالأولى أن يحتاط لدينه وذلك بالسؤال عمَّا يحتاجه من العلم فإن السلامة في الدين لا يعدلها شىء.

 والحمد لله أولا وآخرًا.

 

مجلة الشراع