الخدمات الاعلامية

فلسطينُ في نبضِ شاعرِ الكورةِ الخضراء عبد الله شحادة/بقلم: مَروان مُحَمَّد الخطيب

كانت فلسطينُ، ومازالتْ تُشَكِّلُ مساحةً كبيرةً للعديدِ من شُعراءِ العربيَّةِ والعالم، للامتياحِ من شَغافِها وأخضرِها وقداستِها، وللاندغامِ الوجدانيِّ والفكريِّ مع قضيتِها، وأيضاً للاسترسالِ الرؤيويِّ والحَدْسيِّ مع الأحداثِ العاصفاتِ بساحها ودمها…!.
ولعلَّ الباحثَ في أدبِ فلسطينَ وقضيَّتها، يعثرُ على العديدِ من الأشعارِ البَواهرِ والأواسرِ، في الذي نراهُ ونحسبُهُ مُستَغرِقاً في الإبداعِ الاستشرافيِّ، كما هي الحالُ مع قصيدةِ( جُروحُ فلسطين ) التي نزفها الشاعر العراقيُّ مُحَمَّد مهدي الجواهري سنة 1929م، والتي نضحتْ بمدىً لافتٍ وبليغٍ في مجالِ رؤياهُ العميقةِ والمُستنيرة. والأمرَ ذاتَهُ، نراهُ في موضعٍ آخرَ قائماً على رؤيا عميقةٍ لما هو حقٌّ، ولما هو آتٍ حتماً توافقاً مَعَ السُّنَّةِ الكونيَّةِ في الصِّراعِ بينَ الحقِّ والباطل، أو بينَ المُحْتَلِّ الغاصبِ والثائرين عليه، وهذا ما برعَ في تناولِهِ شاعرُ الرَّابطةِ القلميَّة إيليا أبو ماضي في قصيدتهِ( خَطبُ فلسطين )، التي اعتملَ بها قلبُهُ بعد “وعدِ بلفور” الذي مُنحَ بموجبِه اليهودُ وطناً قومياً لهم في فلسطين من قبل المستعمر الإنكليزي على حساب أهل فلسطين وأمتهم!.
وإذا قُدِّرَ لنا أن نتناولَ فلسطينَ في شاهدٍ آخرَ، وفي قلبٍ أضناهُ ما ألمَّ بها من عسفٍ وجَورٍ، فإنَّنا نُهْرعُ إلى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة، والذي أطلَّ على جِراحِ فلسطينَ في أكثرَ من موضعٍ، وفي العديدِ من القصائدِ والأشعار، مُبدياً لنا رؤياهُ التي تنوعتْ في أسلوبها بينَ الإخبارِ والإنشاءِ، وصولاً إلى وَقْدٍ فكريٍّ لامعٍ، ويضعُ فيه شاعرُنا إصبعَهُ على الوجعِ، ويشقُّ بذلكَ السبيلَ القويمةَ إلى البُرءِ الناجزِ والشفاءِ التَّام.
يقول صاحبُنا في قصيدة( أراجيحُ البُطولة) التي نظمها أوائل شهر أيار من عام 1967م:
“فلسطينُ الجريحُ تئنُّ ظُلماً
يُهدهِدُ نعشَها نَدْبٌ ونَحْبُ
وأبناءُ العُروبةِ في تَجَنٍّ
قصائدُ حُبِّهِم مَيْنٌ وكَذبُ
سنُرجِعُ قولَهُم أضغاثَ حُلْمٍ
وآمالٍ يطيشُ لهُنَّ لُبُّ
صلاحُ الدِّينِ في جَدَثٍ توارى
متى أسداً، خليفتُهُ يَهبُّ!”.
لا شكَّ في أنَّ شاعرَ وأديبَ الكُورةِ الخضراء، يَتَضَوَّرُ ألماً وَجيعاً على فلسطينَ وأهليها، لِما حلَّ بأرضِها وبَنيها، مِنْ جَورِ الاحتلالِ ووصَبِ الاغتصابِ، ومن هولِ الاقتلاعِ والتَّهجيرِ النَّكيب. لكنَّ المُفْجِعَ الأنكى والهَمَّ الأكبرَ، يكمنُ في استرسالِ العُربِ في النَّدبِ والنَّحبِ، بعيداً عن الفعلِ التغييريِّ الرَّفيعِ، والذي من شأنِهِ أنْ يُعيدَ الأمورَ إلى نِصابِها، فترجعَ فلسطينُ حُرَّةً، وَطَليقةً من أصفادِ وقُيودِ الاحتلالِ والاغتصاب. بل، نرى شاعرَنا الصَّفيَّ، يستغرقُ في رَمي الأنظمةِ العربيَّةِ باللَّفِّ والدَّورانِ،  حدَّ الاستغراقِ في الكذبِ والخِداعِ، وصولاً إلى مَشْهديَّةٍ مأساويَّةٍ، لا يرى لَهَا مِنْ حَلٍّ، سِوى العَودةِ إلى التَّاريخِ الذي هو”سِجِلٌّ لأحداثٍ سياسيَّةٍ” واستنطاقِهِ عنْ رؤيا تُعْيدُ المِياهَ إلى مجاريها، والحُقُوقَ إلى أهليها. وَهُنا، يرجعُ بنا شاعرُنا الرُّؤيويُّ عبد الله شحادة، إلى ما كانَ عليه حالُ فلسطينَ والقدس، زمنَ الاحتلالِ الصَّليبيِّ لها قبلَ ما يقربُ من ألفٍ إلَّا خمسينَ سنة، حيثُ جاءَ المُخَلِّصُ والمُحَرِّرُ صلاحُ الدِّين الأيوبيُّ، فأعادَ إلى الأُمَّةِ فحوى هُويَّتِها، وحقيقةَ وحدتِها، مُقَدِّمةً واجبةً ولازمةً، من أجلِ التَّحريرِ والانتصار…ثُمَّ كانتْ حِطِّينُ، وبعدها الفَجرُ المُبينُ، يَتَعالى شَمُوخاً وبَهِيَّاً في آفاقِها، وفي رُبُوعِ الأُمَّةِ جمعاء…!.
وفي قصيدةِ(الشِّباكُ اليَتامى)، التي نُظِمتْ في شَهرِ أيلول من عامِ 1967م، يُحَلِّقُ بنا عبد الله شحادة، مُوَقِّعاً قصيدَهُ وَفْقِ تَرتيليَّةِ بَحرِ البسيط، ذي النَّبرةِ الواثقةِ بِنَفسِها، وَمُبدِياً ما ستصيرُ إليهِ الأمورُ في قابلِ الأيام، وذلكَ في أداءٍ استشرافيٍّ، سيتحققُ ذاتَ يومٍ، مهما استطالتْ السَّنواتُ العِجَافُ الخَدَّاعات، فَيقول:
“سَدُّوا علينا سماءَ الحُبِّ أجنحةً
وطائراتُ الأعادي فوقَنا سُحُبُ
فأمطَرَتْنا صواريخاً مُوَجَّهَةً
منها المُرَقَّدُ، قدْ غَصَّتْ بهِ التُّرُبُ
…باسمِ الصَّليبِ قديماً ذلَّلوا وطني
واليومَ عادوا، وحقَّ العربِ قدْ غَصَبُوا
…والحقُّ مُغْشى عليهِ في مَجَالِسِهم
والعَدلُ من ندوةِ الأحرارِ مُنْسَحِبُ
هُمُ الغُزاةُ، وحِقْدُ الغَربِ يدفَعُهُم
والدَّهرُ يُرهِبُ مَنْ يَغزو وَيَغْتَصِبُ”.
هي ذي فِطْنةُ الشَّاعرِ، وحَذَقُ الأديبِ المُثَقَّفِ، أنْ يرى الأحداثَ بِبَصيرةِ المُفَكِّرِ العميقِ في تَجَلِّيهِ السَّابحِ، في الذي هُوَ كائنٌ خلفَ الحَدثِ، وعندَها، يسمو الشِّعرُ فوقَ الإيقاعِ إلى رُبُوعِ الرُّؤيا، فيخلدُ مَعَ الزَّمنِ، ويصبحُ صاحبُهُ ذا شأنٍ استبصاريٍّ خَلوبٍ وآسر، ما يُعلي أثرَهُ، فيعيشُ بهِ الشَّاعرُ بعدَ موتِهِ حَيواتٍ عديدة…!.
والمُدَقِّقُ في الأبياتِ السَّالفةِ، وفي الذي يُعرفُ بِنكسةِ وهزيمةِ حزيران من سَنةِ 1967م،، يلحظُ إشارةَ شَاعِرِنا إلى الغَزوةِ الصَّليبيَّةِ لِبلادِنا قبلَ مئاتٍ من السِّنين، والتي انتهتْ إلى اندحارٍ كبيرٍ وهزيمةٍ بليغةٍ، مَعَ الفَجرِ الأيوبيِّ السَّطوع، ما يُلْهِمُنا ويُعَلِّمُنا بأنَّ الاحتلالَ والاغتصابَ، مهما استطالَ زمانُهما، فالزَّوالُ أقربُ إليهما من الدَّيمومةِ والبقاء. ويؤكِّدُ شاعرُ الكُورةِ الخضراء، ابنُ كُوسبا السَّخيَّةِ، على معنىً تاريخيٍّ وسياسيٍّ بليغٍ، وهوَ مُدْرَجٌ في بابِ السُّننِ الكونيَّةِ والإنسانيَّةِ الرَّفيعةِ:
” هُمُ الغُزاةُ، وحِقْدُ الغَربِ يدفَعُهُم
والدَّهرُ يُرهِبُ مَنْ يَغزو وَيَغْتَصِبُ”
إنَّ ما يقومُ بهِ بنو صهيونَ المُغْتَصِبُون، من قتلٍ وتجزيرٍ، ومن احتلالٍ وتدمير، لا يتجاوزُ مُخطَّطاتِ واستراتيجيا الغربِ السياسيَّة، حيثُ كانتْ ولادةُ دولةِ يهود في فلسطينَ، رغبةً غربيَّةً إمبرياليَّةً مُوافِقَةً لرغبةِ الغاصبين، وهذا ما تؤكِّدُهُ الوثائقُ التَّاريخيَّةُ الكثيرة، وذلكَ من أجلِ المحافظةِ على مصالحِهم، ومن أجلِ منعِ الأمَّةِ من أنْ تستعيدَ وحدتَها وهُويَّتَها الحضاريَّة…، لكنَّ الثَّابتَ في أخبارِ التَّاريخِ وأعمارِ الدُّولِ والأُممِ أيضاً، أنَّ ما بُنِيَ على العَسْفِ والظُّلمِ والجَورِ، لا محالةَ ساقطٌ، وآيلٌ إلى الدَّمارِ والاضمحلالِ والاندثار(والدَّهرُ يُرهِبُ مَنْ يَغزو وَيَغْتَصِبُ)…، وعليه، نرى صاحبَنا قدْ أوجزَ لنا في أبياتٍ شِعريَّةٍ قليلةٍ، كمَّاً كبيراً من الحقائقِ الفكريَّةِ التاريخيَّةِ والسياسيَّة. وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ، فإنَّما يُشيرُ إلى عَميقِ الرُّؤى عندَ عبد الله شحادة، ما يجعلُ أنساغَ شِعْرهِ عَفيَّةً بالنَّبضِ والحياة، وسَخيَّةً بالدَّيمومةِ والاستمرارِ والبقاء…!.
وبعدَ كُلِّ ما تقدَّمَ، أقولُ بالفمِ الملآن، وبالنَّبضِ الرَّيان: عبدَ الله شحادة…ها أنتذا حَيٌّ بيننا، باقٍ فينا، نبضاً، وشِعراً مُترعاً بالحياةِ والرؤيا، ولقدْ صدقتَ حينَ قُلتَ ذاتَ يوم:
سَتَدفِنُني أيدي المَنونِ بِتُربَتي
وَيَبْعَثُني شِعْري، فأحيا اللَّياليا…!.

بقلم:
مَروان مُحَمَّد الخطيب
10/4/2021م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi