سد النهضة: قنبلة هيدروجينية فوق رأس مصر ..!! / بقلم: أحمد عز الدين/الشراع

مجلة الشراع 11 نيسان 2021

أسوأ ما يمكن أن تقع فيه الرؤية الوطنية في مشروع سد النهضة ، من سوء فهم و سوء تقدير ، أن تنظر إليه – أولا – من زاوية ضيقة فتراه موقعا طرفيا أو موقعة جانبية ، مجتثة الصلة بعملية الانقلاب الاستراتيجي الكامل في بيئة الإقليم ، والتي تجري على قدم وساق ، بمعنى ألا تراه عضوا وظيفيا مزروعا في جسم الاستراتيجية المضادة لمصر وللإقليم العربي ، وأن تفصل بالتالي بين أطرافه وأطرافها ، وأدواته وأدواتها ، وأهدافه وأهدافها ، علما بأن ما يتقد في قلب هذه الاستراتيجية المضادة يقطع بأنها استراتيجية استحواذ وسيطرة وتحكم، ولذلك فإن الممرات المائية والمجاري المائية وعقد المواصلات الأساسية ، والمواقع الاستراتيجية الحاكمة للإقليم من أوله إلى آخره ، هي ميدانها الحقيقي ورقعة حربها الممتدة المتعددة المنصات والأسلحة ، ولذلك فإن نصيب مصر منها هو الأوفر والأكبر ، فمصر هي المفتاح وهي البوابة وهي الغاية وهي الجائزة الكبرى .

وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع ، من سوء فهم وسوء تقدير ، أن تنظر إليه – ثانيا – من لحظة ضعف ، فترى أنه غدا قدرا حالا لا سبيل إلى دفعه أو الفكاك منه ، بعد أن سبق السيف العزل كما يقال ، فقد أبرمت عقود المشروع وجهزت خرائطه ، ووقع فعله على شريان النيل الأزرق ، تحويلا وتبديلا لمساره ، وأن رصاصة المشروع قد غادرت فوهة البندقية المصوّبة نحو مصر ، ولا سبيل أمام مصر سوى أن تقلل من خسائرها ، بحيث لا تكون الإصابة مباشرة في الرأس أو في القلب ، مع العلم بأننا لسنا أمام رصاصة ، وإنما أمام قنبلة انشطارية ، إذا وصل تأثيرها إلى أية نقطة في الجسد المصري ، فسوف تطول شظاياها القاتلة كافة خلاياه ، وكافة وظائفه الحيويّة ، أي أننا أمام تحد وجودي ، يطول الكيان الوطني كله ، وحتى مع فرضية تجاهل حسابات المخاطر التي تطول الوجود الوطني ، فنحن في الحد الأدنى أمام ما يشكل أكبر وأخطر عملية إكراه وابتزاز لأمة في التاريخ ، وهي الأخطر والأكبر لأن هناك من سيجلس على رأس النهر ، ممسكا بسكين حاد قادرا طوال الوقت على أن يقطع شريان الحياة عنا ، وأن السكين وإن كانت في يده ، فإن قرار استخدامها في يد سواه ، وهو محدد ومعروف ، وأن التلويح باستخدام السكين أو الشروع فيه ، سيكون ممتدا وسيكون أكبر وأخطر رادع لمصر في تاريخها ، لأن درجة انضباط كمية المياه المسموح بمرورها إلى مصر ، لن تحدده حقوقها أو حاجاتها ، وإنما ستحدده درجة انضباط سلوكها وامتثالها لما يفرض عليها استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا ، وفي سياق هذا التحدي الوجودي ذاته ، فإن هناك بعدا آخر ، لا يقل خطرا وهو جسم السد ذاته ، الذي لا يزيد معامل الأمان فيه عن 1.5 % ، وإذا كانت بعض التقارير الأمريكية في ضوء حسابات الأمان قد أعطته عمرا قادرا على البقاء والصمود دون أن ينهار يتراوح بين 20 إلى 25 عاما ، فإن آخر تقرير ألماني يتسم بحسابات أكثر دقة ، قد أكد أن إمكانية صموده دون انهيار تتراوح بين 7 أعوام وبين 12 عاما في الحد الأقصى ، أي أن هناك بوضوح شديد إلى جانب كافة الأخطار الأخرى المتعلقة بشريان الحياة في مصر ، وببوار أراضيها وهلاك الزرع والنسل فيها خطر أكبر ، لا يخرج عن كونه قنبلة هيدروجينية من وزن ثقيل غير مسبوق ، سوف تظل معلقة فوق رأس السودان ورأس مصر ، تنتظر ساعة قدرية محتومة لانفجار هائل ، لا تحتاج آثاره المدمرة ونتائجه الوخيمة إلى تكرار أو توضيح ، لأن الجانب الأكبر من آثاره ستؤدي تفاعلاتها تلقائيا إلى عملية أقرب إلى الإبادة الواسعة ، لا لأدوات الحياة في السودان ومصر فحسب ، وإنما لملايين السودانيين والمصريين ، وفضلا عن فعل القدر الطبيعي الذي يحتمل انهيار السد بعد سنوات معدودة ، فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع جازما باستبعاد فعل آخر ليس من أفعال القدر أو أفعال الطبيعة ، وإنما من أفعال البشر أو أفعال الشر ، يمكن ان يؤدي إلى تفجير السد وانهياره ، على غرار تفجير برج التجارة العالمي مثلا ، وسواء في الحالتين أكان الخطر المتوقع من أعمال الطبيعة أو من أعمال البشر ، فكيف لمصر ان تمارس حياتها الطبيعية وهناك قنبلة هيدروجينية من وزن ثقيل معلقة قرب رأسها ، قابلة بعد زمن قصر أو طال لأن تنفجر محدثة في كيانها وبشرها فعلا من أعمال الإبادة ، وكيف لها حتى إذا خرجت بسنواتها العجاف من احتمال مدمر قائم ، أن تكون فضلة دورها القيام بتوريثه لأجيالها الصاعدة أو القادمة ، في محيط سنوات يزداد فيها الخطر المحدق كلما تراكمت .

قد يأخذ الرد على ذلك شكل استفهام استنكاري ، حول الضمير الإنساني ، مستبعدا أن تكون هناك خلايا في هذا الضمير الحي ، يمكن أن ترى مشروعية في عمل من أعمال الإبادة البشرية ، والجواب على ذلك ، أن هذه الخلايا حية وفاعلة وصاحبة نفوذ كبير ، في متون فقه العولمة ، فوفق كتاب ” تقرير لوجانو : مؤامرة الغرب الكبرى ” تورد ” سوسان جورج ” جانبا من المنحنى الفلسفي في أحد هذه المتون ، إذ يقول التقرير بالنص : ” إننا لا نستطيع أن نبقى على نظام السوق الحر الليبرالي ، ونستمر في الوقت نفسه في السماح بوجود هذه المليارات الزائدة من البشر ، ولن تتحمل الحضارة الغربية التي لا تمثل سوى 15% من سكان العالم الآن ثم 10% ثم 5% التضحية بقوتها وثروتها وسلطتها ورفاهيتها وهيبتها ” إذا ما هو الحل ؟ يضيف التقرير : ” الطريقة الوحيدة لضمان سعادة ورفاهية الأغلبية ، أن يكون إجمالي سكان الأرض أقل نسبيا وقد يبدو هذا الخيار قاسيا ، لكنه خيار يمليه العقل والعاطفة معا ، وليس هناك بديل إذا ما أردنا أن نحافظ على النظام الليبرالي ، وأي أمر آخر وهم وتعلل بالأماني ، وهذا المسار ليس لازما اقتصاديا واجتماعيا وايكولوجيا فحسب ، بل نؤمن كذلك بأنه مبرر أخلاقيا ” لماذا ؟ ” كما أن القاذورات والنفايات الاجتماعية – البشر الزائدين – تعرض للخطر المثل والقيم الليبرالية والسوق ، فحينما يؤدي تكاثر السكان إلى إحباط كل جهود تحسين الأوضاع ، فعلى القرن الواحد والعشرين أن يختار بين التحكم والانضباط ، أو الجلبة والفوضى ” ، ما هو المطلوب إذا : تخفيض سكان العالم عند أربع بلايين نسمة عام 2020 ، بدلا من ثمانية بلايين نسمة ، كما هو متوقع ، وينبغي ان تحدث تسعة أعشار هذا التخفيض أو أكثر في البلدان الأقل تطورا .

وفوق هذا المسار الشاذ لحضارة غربية تموت فيها الروح ، حسب تعبير فيلسوف غربي ، ويبقى هيكل الجسد محاصرا بأزمة هيكلية مستحكمة ، فليس مستبعدا أن تحظى أعمال إبادة الفائضين عن الحاجة من أمثالنا ، بمباركة نزعة أخلاقية مستحدثة .

وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع ، من سوء فهم وسوء تقدير ، أن تنظر إليه – ثالثا – من موقع استضعاف فترى أن حسابات تكلفة المواجهة ماديا وسياسيا ، والمسافة فوق خرائط الجغرافيا ، وحسابات القوى والقدرات ، فوق خرائط الموازين العسكرية ، لا تترك مساحة واسعة لإمكانية التلويح باستخدام خيار القوة المسلحة لنفي الخطر ، وتصفية التهديد ، وحتى لو كان ذلك كله يشكل قيودا لا فكاك منها ، فإنه لا ينبغي أن يتحول إلى قناعة راسخة في داخلنا ، لأننا إذا بدأنا في الهبوط على سلالم الخيارات المتاحة أو الممكنة ، فسوف ننتهي سقوطا مذلا عند العتبة السفلى بغير بديل ، سوى أن نرفع أيدينا بالدعاء ونملأ أفواهنا بالتوسل والرجاء ، إنني باليقين ضد خيار الحرب واللجوء إلى استخدام القوة المسلحة لأسباب أخرى غير تلك الأسباب التي يتم الترويج لها ، أهما يتعلق أساسا بأننا أمام حالة استفزز واضحة للكرامة الوطنية ، وهي حالة معلنة ومخططة ، لا يمكن أن يستبعد من بين أهدافها فرض خيار الحرب على الجيش المصري ، بغية احتجاز قوته الضاربة خارج حدود الوطن ، مع كل التهديدات البازغة باستخدام القوة ، التي تلمع في الفضاء الوطني ، وعلى حدوده غربا وشرقا ، لكن ذلك لا يعني مطلقا حتى مع استبعاد خيار الحرب ، أن تخرج كل هذه الأصوات عبر صفحات الإعلام ، بما فيها أصوات وزراء ومسئولين رسميين لتعلن بصوت جهور ، أننا نتعهد بإسقاط هذا الخيار من أيدينا ، إما في تعليل البعض ، لأننا لا نمتلك القدرة ، وإما في تفسير البعض الآخر ، لأن المناخ من حولنا لا يحتمل ذلك ، وبغض النظر عن التعليل أو التفسير ، فقد كان من الضروري أن يبقى الخيار ، جزءا من عملية ضغط مركبة للمواجهة ، فليس مطلوبا أن يكون معلنا في أي حديث رسمي لا بالتلويح به ولا بالتبرع المكاني بإسقاطه ، لأننا في الحالتين نكشف عن جانب من نوايانا ، وفي المعارك جميعها سياسية أو استراتيجية أو عسكرية أو غير ذلك ، ينبغي أن تكون النوايا مستورة لا مكشوفة ، ومضمرة لا معلنة .

وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع ، من سوء فهم وسوء تقدير ، أن تنظر إليه – رابعا – خارج سياق حركة التاريخ وأمواجه المتدفقة ، وصراعاته المتصادمة ، مع الكتلة الحضارية المصرية ، فلم تتوقف عبر تاريخ الاستعمار في مصر وفي جوارها الأفريقي محاولة استخدام شريان الحياة المصرية كسلاح سياسي ، وتوجيهه سيفا مشرعا في صدر مصر ، وقد كان الهدف الاستعماري القديم والحديث واحدا ، وهو تهديد مصر سياسيا والتحكم فيها وكسر إرادتها الوطنية ، فحين بدأت حركة الكشوف الجغرافية في القرن السادس عشر ، وقفزت البرتغال عبر سواحل البحر الأبيض ، واحتلت مواقع في الشمال الأفريقي ، بدأت بالمغرب ثم دارت حول رأس الرجاء الصالح ، ووصلت إلى الهند ، ثم أخذت في مطاردة دول المدن العربية ، على طول سواحل شرق افريقيا ، صاغ البرتغاليون تحالفا مع الحبشة ، كانت أهم محاوره ضد مصر ، وكانت أهم علاماته مشروعا برتغاليا حبشيا مشتركا ، لقطع شريان مصر المائي بتحويل مجرى النيل الأزرق ذاته من الحبشة ، والقذف به في البحر الأحمر ، لكي تهلك مصر عطشا وجوعا ، ولم يكن المشروع أكثر من ضرب من الخيال ، وإن كان ناطقا بالنوايا الاستعمارية حد الإيذاء بل وحد الإفناء والإبادة ، أما دور الاستعمار البريطاني في ذلك ، فلم يكن خلال مراحل تالية أقل حقدا ، سواء خلال فترة احتلاله للسودان أو لأوغندة وكينيا وتنزانيا ، فهو الذي دأب على وضع مصالح دول حوض النيل ، في حالة تعارض وتصادم مع المصالح المصرية ، وهو الذي أيقظ حواسها تجاه موارد مصر المائية ، ولم يكن المشهد المسجل في مجلس العموم البريطاني ، بعد إقدام مصر على تأميم قناة السويس ، وقبل بدء الحملة العسكرية بما تضمنه من خطابات تطالب بتحرك بريطاني عاجل ، لمنع تدفق مياه النيل إلى مصر منقطع الصلة بذلك كله ، أما مشروع السدود الاثيوبية فهو منتوج تقرير أمريكي عن النيل الأزرق ، قدم إلى اثيوبيا في أوج معركة السد العالي ، في عام 1964 ، وتضمن 26 موقعا لإنشاء سدود عليه أهمها أربع مواقع من بينها سد النهضة .

وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع ، من سوء فهم وسوء تقدير ، أن تنظر إليه – خامسا – من زاوية ذاتية ضيقة ، باعتباره فقط استحقاقا طبيعيا لإهمال طال لثلاثة عقود ، واتصل بعد الثورة من جانب مصر ، ولا أحد يستطيع أن يدافع عن سوء تقدير وسوء تصرف ، في إطار سلطة قزمت مفهوم الأمن القومي ، في حدود مخفورة عسكريا ، وغير محصنة استراتيجيا ، أو هبطت بالسياسة الخارجية إلى نمط أطلقت عليه في حينه ” دبلوماسية الملاينة ” وهي سياسة غيرت من أولويات فعل السياسة الخارجية ، فوضعت التوجه نحو أمريكا وأوربا هو المحور الأول ، الذي يحظى بالاهتمام المطلق ، ورغم أن ما حدث بعد الثورة وحتى الآن ، قد زاد في تقزيم مفهوم الامن القومي ، وقد نزل بدبلوماسية الملاينة إلى درك اسفل من دبلوماسية المساندة لعملية التغيير الاستراتيجي في الإقليم ، تحت وهم مصالح فوق وطنية ، لكن ذلك كله لا يعني أن نقع في ضلال مبين ، بشأن تراث مصري تراكم لعقود يف دول القارة ، ومازال يتنفس في بعض أركانها ، فالمطلوب هو نفض الغبار والرماد الذي تراكم فوقه بفعل الإهمال والزمن ، وإعادة كشف جوهره الثمين ، فكما كانت مصر هي المعبر الذي دخلت منه المسيحية إلى أفريقيا ، كانت ايضا الجسر الذي طواه الإسلام إلى هناك ، فمصر هي التي أعطت القارة أديانها ومعتقداتها السماوية ، وقد لعب الجامع الأزهر دور المنارة الكبرى ، في نشر التراث الإسلامي ، والحضارة العربية الإسلامية ، ثم أن مصر هي التي قادت حركة التحرر الكبرى في القارة ، وهي التي أعطتها من عصارة ثورتها وفكرها ودمها ، ما اصطبغت أعلام التحرير ، التي رفرفت بعد قرون من العبودية والاستعمار في آفاقها الواسعة ، إن لدينا مخزون رأسمال وطني هائل في أفريقيا ، ولكنه مصادر ومجمد ، ولذلك فالمطلوب ليس تجاهل الماضي ، وإنما إيقاظه وبث الروح فيه والبناء فوقه .

▲▲▲

لا استطيع أن أعطي عقلي لما نشرته إحدى الصحف الأثيوبية ، عن أن غض الطرف مصريا عن مشروع السد ومخاطره ، كان محل صفقة بين السلطة في مصر والحكومة في اثيوبيا ، ليس فقط لأن ما نشر عن أن عائد الصفقة مليار دولار وهو مبلغ يكاد أن يكافئ بيع أهرامات مصر مقابل دولار واحد ، فضلا عن أن عقلي يبدو عاجزا عن بناء صورة لذلك ، يمكن أن تتسم بالواقعية ، كما أنني لا استطيع أن أصدق أمام ما يمثله السد من تهديد وجودي لمصر ، أن عاقلا واحدا يمكن أن يرى فيما قيل عن وعود أثيوبية بعد المساس بحصة مصر من المياه ، أمرا يمكن التعويل عليه أو الاطمئنان إليه ، وأي حديث بهذا الخصوص هو لغو وضلال وتضليل ، ولذلك فإن كثيرا من تصريحات المسئولين في هذه السلطة ، لا تفسير ولا تبرير لها يمكن أن يسكّنها في سوء الفهم أو سوء التقدير أو حتى في سياق التهوين ، فسوف تبقى فيها في كل الأحوال مساحة غامضة تستعصي على الفهم ، لماذا يتحدثون عن تفعيل مبدأ التفاوض مع أثيوبيا وهم يدركون تماما أنه مغلق من جانبه الآخر ؟ ولماذا يكررون مسألة الطمأنة الاثيوبية للدكتور مرسي ، رغم أن هناك إدراكا عاما بأن أثيوبيا تفرض أمرا واقعا يعبر عن سوء قصد وسوء نية معا ، فوفقا للمفاوضات بين الجانبين كان مفترضا البدء في عملية البناء في سبتمبر المقبل ، وبعد انتهاء اللجنة الثلاثية من تقديم تقريرها ، رغم أنه لا يمثّل مرجعية حاكمة لقبول أو رفض المشروع ، ومع رفض أثيوبية العلني أن تقدم للجنة وثائق كاملة تخص بنية المشروع ، ورغم أنه لا يجوز اتخاذ أي إجراء يمس حقوق وحصة مصر من المياه ، دون إخطار سابق ، ومع هذا الخطاب الأثيوبي المتربّص ، الذي يتحدث إعلاميا عن كسر إرادة مصر ، وعن لسان سفيرها في القاهرة التي لخص الحل في أن تذهب مصر لتحلية مياه البحر ، علما بأن تكلفة المتر المكعب الواحد تتجاوز خمسة جنيهات ، ولذلك قد تجد تفسيرا لتصريحات وزير الري ، عن أن الخطوة الاثيوبية لا يجب أن تزعج مصر حاليا ، في أن الرجل يدافع عن قصور دوره ، وفشله ، حتى في التعامل مع أزمات الري الداخلية ، لكنك لا تستطيع أن تجد تفسيرا مقنعا لقول الدكتور عصام الحداد ” إن معارضة سد النهضة تعزز صورة سلبية لمصر في أفريقيا ” فهذا كلام لا يغطي على الفشل أو القصور ، ولكنه يمثل نزعة واضحة إلى تقويض المعارضة المصرية لسد ، وإلى القبول المذعن بأمره الواقع ، بل إنه يفتح الجسور أمام المشروع لكي يعبر آمنا مطمئنا إلى حيث يريد ، دون أن تعرف على وجه التحديد لصالح من ولحساب من ، لقد ظل ملف السد بين يديه طوال الشهور الماضية وقد تراكمت حول الملف وداخله ، على امتداد الشهور الستة الأخيرة ، تقارير أمنية مستفيضة حول التحركات والأهداف والشركاء ، وتفاصيل الأعمال في الموقع ، منبهة ومحذرة من حجم المخاطر الجسيمة ، التي تفتح أفواهها لتبتلع مصر ، ومع ذلك ران السكون والقعود والجمود دون قول أو فعل ، لتزداد مساحة الغموض غموضا بهذا الحديث ، الذي يريد أن يقايض مستقبل الكيان الوطني كله ، بإدعاء الحفاظ على صورة معلقة لمصر في مخلية جانب من أفريقيا ، وليلتقي هذا الغموض مع غموض آخر ، يتعلق بائتلاف التحالف الغربي والإقليمي حول المشروع ، وإذا استثنينا الصين التي تمد استراتيجية ثابتة صوب أفريقيا ، وإيطاليا التي استيقظت حواسها كدولة احتلال سابق لأثيوبيا ، فلك أن تتصور أن أول تهنئة بالمشروع صدرت عن الإقليم كان مصدرها تركيا ، ولك أن تتصور أن تركيا نفسها التي تلعب الدور نفسه ، بخصوص حقوق سوريا والعراق في مياه دجلة والفرات ، قد قدمت عروضا لاستثمار جوانب في المشروع بنظام الBOT لمدة خمسين عاما ، ولك أن تتصور أن قطر بدورها ليست بعيدة عن مصادر التمويل شأنها شأن دول خليجية أخرى اندفعت إلى المشاركة في المشروع بقوة دفع أمريكية ، ولك أن تتصور أن اليد العليا القابضة على المشروع هي يد إسرائيل ، فتحكمها في قلب المشروع المنتج للكهرباء ، بقوة إنتاج ضعف السد العالي ثلاث مرات ، يعني تحكمها في مخزون وصرف المياه ، وفيما يتم حبسه أو السماح له بالمرور إلى السودان ومصر ، ولك أن تتصور أن يد إسرائيل على هذا النحو لن تقبض على قلب كهرباء السد ، وإنما على قلب مصر ، ولك أن تتصور بعد ذلك أن الدول الفاعلة في تمرير الانقلاب الاستراتيجي الكبير في الإقليم بقيادة الولايات المتحدة هي نفسها الدول الفاعلة في تمكين المشروع من الخروج إلى حيز الوجود ، ربما عند ذلك يتبدد جانب من الغموض ، وربما عند ذلك تستطيع أن تقرأ ما كتبه الصهيوني ” أرتوني سوفر ” رئيس مركز الأبحاث الجغرافية الاستراتيجية في إسرائيل ، عن آثار السد على مصر باعتباره يكتب متلذذا مرثية في مصر ، وهو يقول : ( إن مصر على وشك أن تشهد كارثة وانهيارا تاما ، إنها تنتظر كارثة مائية وغذائية وفوضى مطلقة ، ولو لم تبني إسرائيل سورا على حدودها لواجهت ملايين المصريين في يأس تام للحصول على المياه والغذاء وفرص العمل وهربا من الجفاف ) أما الرسالة فمفتوحة يقول منطوقها من داخلها ، سوف تأتي مصر غلينا منحنية ومكسورة وصاغرة بعد أن يسقطها الجوع ويهلكها العطش ، مشروع السد إذا كما قلت في السطور الأولى ، عضو وظيفي مزروع في جسم الاستراتيجية الشاملة المضادة لمصر وللإقليم .

▲▲▲

ما العمل إذا ؟ لابد أن ندرك بعمق وفاعلية – أولا – أن السياسة الخارجية لأي بلد هي فائض قوته الداخلية ، وإذا ظلت معاول الهدم والتفتيت والتجويع والاستحواذ الضيق الأفق على مفاتيح العمل الوطني ، فسوف تظل مصر بالضرورة تتحرك فوق هذا المنحدر الحاد إلى حيث الصدام والانفجار ، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية – ثانيا – أن آمان مصر معلق بالأساس بقوتها الذاتية ، وأن هذه القوة في تعبيرها الصحيح هي القوة العسكرية ، بالدرجة الاولى ، لا السياسية والدبلوماسية فقط ، وأن القوة هي قوة النيران لا الدعاية ، وقوة الاقتصاد لا الخطب المنبريّة ، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية – ثالثا – بغض النظر عن موضوع اللجان والاجتماعات والبيانات ، أننا نواجه تهديدا وجوديا شاملا متعدد الأبعاد والصور والاتجاهات ، وأن ذلك لابد أن ينعكس على صياغة استراتيجية وطنية متكاملة وشاملة ، تحتوي كافة هذه الأبعاد في جوانبها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية ، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية – رابعا – أن التوصيف الصحيح لمشروع سد النهضة ، أنه يمثل تهديدا رأسيا للكيان الوطني ، وهذا يعني التعامل معه بمنهجية الأمن القومي الشامل ، أي أن الهدف الوطني في مواجهته ينبغي أن يوضع في إطار محدد : ( نفي التهديد ) ومنهج نفي التهديد يتطلب أن تكون مساحة العمل السري أكبر بكثير من العمل العلني ، علما بأن كلمة ( نفي ) تعني الصعود على درجات متتالية ، تبدأ بالمواجهة ثم الاحتواء ثم الردع ثم التدمير ، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية – خامسا – أننا نمتلك القدرة والقوة والعقل والخبرة والفرصة ، ولكن مجموعها جميعها يساوي صفرا إذا لم نمتلك الإرادة .

Email: ezz@ahmedezzeldin.com

Site : ahmedezzeldin.com

 

مجلة الشراع