اسبانيا المسيحية ووصول الإسلام ودافنشي العرب/ كتب: عبد الهادي محيسن/الشراع

الشراع 2 تشرين اول 2023

لم تمتلك إسبانيا المسيحية قبل وصول الإسلام سوى القليل من التراث العلمي ، وهكذا لاقى العرب الذين بلغوها في أواخر القرن السابع وضعا مختلفا عن الأمويين والعباسيين الذي برع علمائهم من كافة الطوائف والأعراق في ترجمة كنوزالحضارات اليونانية والبيزنطية والفارسية والهندية ، إلا أنه ازدهرالعلم والنشاط الثقافي عندما انطلقوا ينسخان ما يجري في بغداد .

 

إذن ما لبث أن نمت العلوم وسيطر الطب والفلسفة إضافة الى العلوم الآخرى المتمثلة في الرياضيات والفلك ، وكان من بين كبار العلماء الأندلسيين الأكثر شهرة وأولهم هو في الواقع عالم العصور الوسطى الوحيد عباس بن فرناس 810-877 م المخترع الأسطوري وليوناردو دافنشي العرب مع أنه سبقه بسبعة قرون .

 

يعد عباس بن فرناس الطيار الأول في العالم الذي كرّمه العرب بإصدار طوابع بريدية تحمل رسمه كما أطلق إسمه على بعض المطارات إضافة الى إحدى فوهات القمر وتميز بشخصيته النابضة بالحياة وباستثنائية تعدد معرفته ، وبأنه مخترع جاء الى قرطبة لتعليم الرياضيات والموسيقى بعدما سافر الى بغداد للدراسة .

امتلك ابن فرناس فضولا لا يرتوي وشجاعة متهورة حيث قام بمحاولته الشهيرة في الطيران الموجه ، بعدما بنى وهو في الخامسة والستين طائرة شراعية بدائية ، ورمى بنفسه من الجانب الشاهق لجبل الرصافة على بعد بضعة أميال الى الشمال الغربي من قرطبة .

تقول بعض الروايات أنه بقي محلقا لبضع دقائق قبل أن يقوم بهبوط سيء ويصاب في ظهره وقد أمكنه تبديل ارتفاعه وتغيير وجهته للوصول الى بقعة الهبوط المستهدفة ، غير أنه لم يأخذ في الاعتبار أهمية ذيل العصفور في الطيران والهبوط وقال لاحقا أنه لو وفر جهازالذيل لأمكنه تحسين شروط الهبوط .

انفتحت الأندلس باكرا على الطب ، إذ سافر الكثيرون من باحثيها في أواسط القرن العاشر الى بغداد ليتعلموا على أيدي كبار أطبائها من أمثال الرازي ودراسة الترجمات العربية لنصوص جالينوس ومن بين هؤلاء الأطباء الأندلسيين أبو القاسم الزهراوي 936- 1013 الذي مارس الطب في الزهراء ومنها يشتق إسمه بوصفه طبيبا في بلاط الخليفة الحكم .

كانت لائحة مساهمات الزهراوي في الطب رائعة فقد اخترع أكثر من مئة أداة جراحية جديدة لا يزال الكثير منها مستخدما اليوم مثل ملاقط التوليد وهو أول من استخدم القُصّابة لخياطة الجروح الداخلية والصنارة الجراحية والملعقة والمجس والمنظار ومنشار العظم والإبرة الجراحية والزراقة (المحقنة) ومشرط استخراج الحصاة .

كان الرائد في استخدام البنج الذي يتم تنشقه من الإسفنج المبلل بالمخدرات بما فيها القنب والافيون ، وخطا أيضا خطوات متقدمة في طب الأسنان وأتقن القيام ببضع الرغامي وسيكون لعمل الزهراوي وقع ضخم في أوروبا وتعليم الطب في عصر النهضة فيها حيث يمكننا مقارنة إرثه في هذا الحقل بإرث الرازي وابن سينا .

وأكثر نصوصه شهرة كناية عن موسوعة ضخمة في الطب والجراحة تعرف بكتاب التصريف ، أما عنوانه الكبير الكامل فهو “كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف” وقد وضع هذا العمل الضخم المؤلف من ثلاثين مجلدا قرابة العام 1000م ويتضمن شروحا تشريحية وتصنيفت للأمراض إضافة الى أقسام عن جراحة العظام وعن طب العيون وعلم العقاقير والأهم من ذلك كله عن الجراحة .

ظل التصريف ربما مدى خمسة قرون في أوروبا القرون الوسطى واحدا من المصادر الأولى في المعرفة الطبية الأوروبية الى جانب الحاوي للرازي والقانون لابن سينا وشكل مرجعا لجميع الأطباء والجراحين ، وسرعان ما ترجم بعضا من الدراسات التي تشكل التصريف الى اللاتينية لتجد طريقها الى الطباعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر .

أما الطبيب الأندلسي الآخر فهو ابن زهر المولود في إشبيليا حوال 1091 م وأصبح واحدا من عظماء أطباء الإسلام لا يفوقه أحد في الإسلام كله سوى الرازي ، وستتمتع كتاباته على غرار كتابات الزهراوي بتأثير كبير في الممارسة الطبية في أوروبا المسيحية .

وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر أخذ علماء الفلك في الأندلس على عاتقهم التحدي الذي طرحه ابن الهيثم في السابق وهو التشكيك في أساليب بطليموس وتصحيح أخطائه ، وعرف عن فلكي عربي مجهول من القرن الحادي عشر أنه وضع كتابا عنوانه “الاستدراك عن بطليموس” ويقال أنه تضمن لائحة بالاعتراضات على فلك بطليموس وقد اشتهر هذا العمل لأنه أدى الى مايسمى الثورة الأندلسية التي لم تشمل الفلكيين فحسب بل أفضل الفلاسفة الأندلسيين أمثال ابن رشد وابن طفيل .

بنى الزرقالي في أواخر القرن الحادي عشر أول إسطرلاب شامل أمكنه العمل من أي مكان في العالم على عكس سابقاته التي صممت للعمل من خط عرض محدد وأصبحت تعرف بالغرب باسم saphaea من كلمة صفيحة العربية ، وأجرى الزرقالي عددا من القياسات المهمة بل أنه استنتج أن مدار عطارد ليس دائريا بل بيضوي الشكل ، وبقي الزرقالي واحد من فلكيين إسلاميين إثنين فقط والآخر هو البتاني يذكرهما كوبرنيكوس في مؤلفه “الثورات في أجواء السماء ” .

عبد الهادي محيسن

كاتب وباحث

 

مجلة الشراع