اجتماع الخيمة الحدودية بين الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب وإطلاق سراح السفير البلجيكي/ كتب: عبد الهادي محيسن/الشراع

الشراع 7 اب 2023

انتهت ولاية الرئيس كميل شمعون وأصبح اللواء فؤاد شهاب رئيسا للبنان فأعلن عن اجتماع يعقد بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر على الحدود اللبنانية السورية ، كان ضابط المخابرات المصرية عبد الرحيم عزت الملحق بالسفارة المصرية بدمشق قبل الوحدة هو ضابط الإرتباط بين السراج والقاهرة وبقي بعد الوحدة كذلك .

كان عبد الحميد السراج مع بعض عناصر الشعبة الثانية ضمن المواكبة الأمنية للرئيس عبد الناصر وهو في طريقه للإجتماع بالرئيس فؤاد شهاب في خيمة كبيرة نصبت على الحدود السورية اللبنانية ، في هذه الأثناء طرح صلاح نصر في الإجتماع موضوع السفير البلجيكي الكونت دوسان ،وهو قريب للعائلة المالكة في بلجيكا المسجون في السجون اللبنانية بعد أن قبض عليه على الحدود في المصنع وهو يهرب الأسلحة لصالح المقاومة اللبنانية .

طلب الرئيس عبد الناصر من الرئيس فؤاد شهاب الإفراج عن السفير البلجيكي فوافق الرئيس شهاب على الفور . وأفرج عنه وعاد الى سوريا وبقي فيها بعد أن امتنع عن العودة الى بلجيكا وبقي لاجئا سياسيا في سورية ، وكانت هذه الأسلحة تسلم الى السيد رشيد شهاب الدين الذي شكل ما يزيد عن خمس فصائل مقاومة وطنية وأشعل الثورة في بيروت وبعض المناطق في البقاع الغربي .

طلبت الشعبة الثانية برئاسة عبد الحميد السراج من السفير البلجيكي في حينه ، الذي كانت تربطه علاقة خاصة بالعرب ومن أكبر مؤيدي القضية العربية إعارة السيارة الدبلوماسية الخاصة به لنقل بعض الأسلحة للمقاومة الوطنية اللبنانية فلم يمتنع بل وافق مرحبا .

وبتاريخ 11\5\1958قرر السفير قيادة السيارة بنفسه كونه يريد الذهاب الى لبنان فحصل ما حصل حين وقع السفير في الفخ على الحدود اللبنانية السورية بعد وشاية به ، وضبط متلبسا بنقل الأسلحة وأوقف على الحدود ونقل الى زحلة ووضع في السجن .

طلب السراج مني بعد أن ناولني مغلفا : عليك أن تذهب الى بيروت وتسلم هذا المغلف الى المقدم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية في الجيش اللبناني ، وبأقل من ساعة ونصف وصلت الى بيروت وفي وزارة الدفاع في اليرزة قدمت الرسالة للمقدم أنطون سعد ، وما أن قرأ الرسالة حتى قال لي بلهجة جبلية : ولك كيف قدرتوا تطبقوه لهال المحترم .. ؟ ويقصد الرئيس شهاب ثم استدعى أحد الضباط وطلب منه الذهاب الى السجن وتسليمي الكونت لويس دوسان .

وفي غرفة مدير السجن هجم علي الكونت معانقا وقد فاضت عيناه بالدموع وخلال تناولنا القهوة قال السفير إنني ممتن لما قدمتموه لي في السجن خصوصا أولئك الذين يتولون رعايتي ورجائي بعد أن تغير الوضع في لبنان وبدأ عهد جديد أن تستمروا بزيارتي … فقلت بلهجة حاسمة : لن أستطيع زيارتك في السجن بعد هذه المرة فقد أصبحت طليقا وسوف تذهب معي الآن الى دمشق .

وما أن سمع ما قلته حتى طار الى المهجع ووزع جميع حوائجه على السجناء وعاد وهو يرتدي البزة الرسمية التي كان يرتديها عند اعتقاله في المصنع اللبناني ، وفي طريقنا الى دمشق توقفنا في شتورا عند مطعم عقل وحول مائدة عامرة رويت له جميع مجريات الأحداث بخصوصه منذ توقيفه وحتى الساعة التي التقيته بها في مكتب مدير السجن ، وعندما سمع أن الرئيس عبد الناصر هو الذي طلب من الرئيس شهاب إخلاء سبيله قال : إن هذا الرجل زعيم وطني كبير … وعن بعثة التحقيق التي أوفدت من بروكسل للتحقيق بأمره ، ابتسم بمرارة قائلا : تصور أن هذا البارون رئيس البعثة هو ابن عم والدي .

لدى وصولنا الى المصنع اللبناني ومشاهدته آثار الدمار الذي لحق في المكان قلت له : إن الدمار الذي تشاهده سببه محاولة إنقاذك أثناء احتجازك فيه ولكن لسوء الحظ كنت قد رحلت الى زحلة ، وبعد وصولنا الى دمشق استراح الكونت في بيته بضعة أيام وأخذته لمقابلة عبد الحميد السراج رئيس الشعبة الثانية الذي أبلغه بأن قرارا قد صدر باعتبارك لاجئا سياسيا في سورية مع تخصيص مبلغ شهري محترم يفي بكل متطلباتك .

فرد السفير بأنه أحب سورية وأنه يريد أن يمضي بقية حياته فيها حيث سيسلم المنزل الذي يقطنه في دمشق لأنه يرغب السكن في إحدى قرى المناطق الجبلية القريبة من دمشق لمزاولة عباداته وممارسة التأمل ورياضة اليوغا وبعد يومين أخذته الى منطقة قطنا وجلت به في القرى التابعة لها وعندما وصل الى قرية عرنة انبهر بجمالها وطبيعتها الخلابة وجبل الشيخ الذي يحتضنها وزاد تمسكه بها عندما علم أن غالبية سكانها من الموحدين الدروز إذ قال أنه يؤمن بالتقمص كما يعتقد سكان هذه المنطقة .

وبعد إطلاعنا على عدة بيوت وقع اختياره على إحداها وعندما سألت صاحبه عن إمكانية بيعه كان رده إيجابيا فطلبت منه الحضور الى دمشق لقبض ثمنه كما أهداه السراج سيارة جيب ، وهكذا عاد السفير الكونت لويس دوسان طليقا وقضى ما تبقي من حياته في سورية حيث وافته المنية عام 1995 ودفن في سورية .

عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث

مجلة الشراع