من نماذج التأويل عند السلف/ بقلم الشيخ أسامة السيد/ الشراع
1
الشراع 22 حزيران 2023
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءاياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويلَه إلا اللهُ والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كلٌ من عند ربنا وما يَذكَّر إلا أولو الألباب} سورة آل عمران.
كثيرًا ما يعترض أدعياء السلفية علينا نحن أهل الحق لأننا نؤول الآيات المتشابهات في كتاب الله تعالى، ونعني بالمتشابه ما لم تتضح دلالته ويحتمل بحسب وضع اللغة أوجهًا فاحتيج إلى النظر لحمله على المعنى الصحيح، وذلك أن القرآن الكريم فيه آياتٌ محكماتٌ وهي التي لا تحتمل بحسب وضع اللغة إلا معنًى واحدًا أو كانت دلالتُها على المراد واضحة، وفيه آيات متشابهات، وقد سمَّى الله تعالى الآيات المحكمات أمَّ الكتاب فأفهم ذلك أن المحكمات هنَّ الأصل الذي يُرجع إليه في التأويل وأن أي تأويلٍ يتعارض مع المحكم لا يصح. ومن الآيات المحكمات قول الله تعالى:{ليس كمثله شىءٌ وهو السميع البصير}سورة الشورى. وهيأصرح آيةٍ في كتاب الله في تنزيه الله عن المكان والجهة لأن المتحيِّز في المكان والجهة له مِثْلٌ، وإنما يحتاجالجسم إلى التحيُّز في المكان والجهة فلو كان اللهتعالى متحيِّزًا لكان له مِثْلٌ وقد نفى ربنا تعالى عن نفسه المثل بهذه الآية فدلَّت على التنزيه الصريح. ومعلومٌ أن القرآن الكريم يتعاضد ولا يتناقض وبالتالي لا بد أن يتوافق التأويل مع المحكم وإلا كان باطلًا، ولكننا نرى أدعياء السلفية وللأسف يكثرون تتبع المتشابهابتغاء بث سموم التشبيه والتجسيم في قلوب العوامِّ فلا يؤولونها بما يتوافق مع قوله تعالى{ليس كمثله شىءٌ} ومع غيرها من المحكمات إنما يحملونها على ما يوهم التجسيم والتشبيه فيضلون ويُضلون، فيفسرون الاستواء في قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى} سورة طه، بالاستقرار وهذا باطل،وقوله تعالى:{وجاء ربك} سورة الفجر، بالانتقال من مكانٍ لآخر وهذا باطل،ويفسرونغير ذلك من المتشابهبمثل هذه المعاني الباطلة التي لا تليق بالله،وهذا تأويلٌ يتعارض مع الآية المحكمة {ليس كمثله شىءٌ}وبالتالي فإن القول به يؤدي إلى جعل التعارض في القرآن الكريم وهذا قدحٌ في كتاب الله تعالى.ويزعمون أن السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأولى الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله”خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب” رواه الترمذي، كانوا على هذه الطريقة وأنهم كانوا بزعمهم يحملون هذه النصوص على ظاهرها ويتهمون أهل السنة بالتعطيل وبمخالفة السلف إذا أولوها بما يتوافق مع {ليس كمثله شىء}وكم فتَنُوا بذلك من سُذَّجٍ ضعاف العقول فأردوهم في مهاوي الضلال.
التأويل الإجمالي والتفصيلي
ونحن نُبيِّن في هذا المقال طريقة السلف في التأويل فنقول: جرت عادة أغلب علماء السلف على تأويل النصوص المتشابهة تأويلًا إجماليًا وذلك بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنًى على خلاف الظاهر ليس كصفات الأجسام فيقولون: “أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف” أي من غير اعتقاد الجسمية والكيفية لقيام الدليل العقلي والنقلي على التنزيه، وقد رُوي هذا عن سفيان الثوري وسفيان بن عُيينه والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه ومالك بن أنسوعبد الله بن المباركوغيرهم كما ذكر ذلك البغوي في “تفسيره” وابن حجرٍ في “الفتح” وابن عبد البر في “التمهيد” وغيرهم. وأفاد قول الأئمة“بلا كيف“ أن الله لا يوصفباستواءٍ كاستواء المخلوقين ولا بمجىءكمجىء المخلوقين، وقال الإمام الشافعي:”آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله” رواه ابن قدامة في “لمعة الاعتقاد” أي لا على ما تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسيَّة والجسمية. وهذه الطريقة هي المعروفة بالتأويل الإجمالي. وأوَّل بعض السلف تأويلًا تفصيليًا بتعيين معانٍ لبعض النصوص المتشابهة توافق التنزيه وتوافق ما تقتضيه لغة العرب خلافًا لإنكار أدعياء السلفية ذلك ونحن نورد في ذلك نماذج فنقول:
قد أوَّل حبر الأمة عبد الله بن عبَّاس النور في قول الله تعالى:{الله نور السموات والأرض} سورة النور، بالهادي كما في “تفسير السمعاني” وغيره،فالله هدى أهل السموات وهم الملائكة لنور الإيمان وهدى كثيرًا من أهل الأرض لذلك أيضًا. وأوَّل ابن عبّاسٍ أيضًا الساق في قوله تعالى:{يوم يُكشف عن ساقٍ} سورة القلم، بالشدة الشديدة كما في “الدر المنثور” للسيوطي وغيره. تقول العرب: كشفت الحرب عن ساق أي اشتد القتال.
وأوَّل البخاري أمير المؤمنين في الحديث تأويلًا تفصيليًا أيضًا ففي صحيحه في كتاب تفسير القرآنباب تفسير سورة القَصص{كل شىءٍ هالكٌ إلا وجهه}قال: إلا ملكه. ويقال أيضًا: إلا ما أريد به وجه الله أي ما يُتقرَّب به إلى الله مما يُبتغى به رضا الله من العمل الصالح فإن ثوابه يبقى. ومُلك الله تعالى صفةٌ من صفاته الأزلية أي فلا بداية له ولا نهاية له فلا يفنى، فالله الملك الحق مالك الملك قبل أن يكون مخلوقات، فإنه عزّ وجلَّ لم يستفد بإحداث البرية اسمًا أو صفةً جديدةً ولا ينتفي عنه بعد موت الإنس والجن والملائكة وانتهاء الدنيا اسمٌ ولا صفةٌ.
وأوَّل الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل وهو الذي ينتسب إليه أدعياء السلفية زورًا تأويلًا تفصيليًا ففي “مناقب أحمد“للحافظ البيهقي أن الإمام أحمد أوَّل قوله تعالى:{وجاء ربك} سورة الفجر،فقال: “إنما جاءأمره“. ونقل الحافظ ابن كثير في “البداية والنهاية” بسنده إلى الإمام أحمد أنه قال:”جاء ثوابه” وفيهعن البيهقي أنه قال: “هذا إسنادٌ لا غُبار عليه” ولا يخفى أن ابن كثيرٍ عند الوهابية عُمدة فماذا هم قائلون وقد أثبت شيخهم ابن كثيرٍ عن الإمام أحمد تنزيه الله عن الانتقال وتأويل ما يُوهم ذلك؟!
هذا والكلام في هذا الموضوع يطول ويطول ولكن فيما ذكرناه مَقنَعٌ لمن يقنع أن السلف أوَّلوا تأويلًا تفصيليًا أيضًا ولم يحملوا النصوص على ظاهرها انتصارًا لمذهب التجسيم كما هو حال أدعياء السلفية.