عالم الصوفية: حكاية واقعية أقرب للخيال 1من 2 /أريج عرفه – القاهرة

الشراع 27 كانون ثاني 2023

الفكر الصوفي  كثيرا ما اثارني وتراوحت علاقتي معه بين الشد والجذب، وكانت ومازالت الاشعار الصوفيه لها وقع السحر على نفسي، ويستهويني  عمقها وتفردها بجمل شعرية لا يمكن فهم مكامنها بسهولة،  لكنها تتغلغل داخل أعماق المتلقي فتسحبه الى عوالم رحبه، تأخذه الى رحلة وجدانية تسبر أغوار نفسه، تهز قناعاته، تناقش آرائه، بل وتسهم في اعادة صياغة أفكاره، ليجد نفسه في دوامة من التشتت والشك واليقين والحب والراحة والألم.
مفردات الشعر الصوفي ليست تقريرية، وهي معزولة تماما عن الواقع المعاش، لها تعبيرات و انعكاسات مختلفة تماماً عن أساليب الكتابات الشعرية الأخرى، فهي مثل البحر احياناً تغرق و احياًناً تتمايل وتستمتع بالابحار ،واحياناً لا تدري متي ستعود و اين انت؟؟.
من هنا بدأت رحلة البحث عن الصوفية والتصوف والابحار دا خل اعماق اليم الصوفي بحذر شديد ،خوفا من الغرق، أو الإنجراف نحو تيار يفقدني طبيعتي كشخص محايد، لا يرفض شيئا وليس من السهل أن يقتنع بأي شئ، وما أردته من هذه التجربة الصوفية فقط المعرفة.
ماهذا الشعور الجامح الذي عجزت كلماتي عن التعبير عنه؟
بدأت في الانطلاق بشكل اشبه بالهوس، من قراءة متأنية ومتدبرة في كتب التاريخ الصوفي قديمه وحديثه، وأطلعت على علوم مبهرة كانت لهم في الفلسفة وعلم الكلام والفيزياء والكيمياء وعلم الكون، وعلوم اخري كثيرة، وقمت باجراء مقابلات مباشرة مع شيوخ من عدد من الطرق، ودخول عالم التصوف بشكل المتسائل المهووس، و فهمت ان التصوف كان ممارسة فردية، ثم باتت طرقا و موردين و شيوخا و عهودا، و كل كتاب يفتح افاقاً من علامات الاستفهام، و تغوص في نقاشات، و تتعرف علي اشخاص، و تسافر الي اماكن، و تبذل جهدا في مقاومة اليأس والاستسلام و الانهزام و عدم الاقتناع ، و العكس صحيح .
في بعض الاوقات غرقت، و في بعض الاوقات رقصت وفرحت و اصبت بالعشق و الانبهار، ولم يكن من السهل انبهاري من قبل، ولكن كل ما كنت اريده هو المعرفة، لا اريد ان اصبح عارفه بالله، مثل ما يقول الصوفيون، أو أصل الى مقام المشاهدة، وهو اكبر المقامات الصوفية، التي يجتهد الانسان في عشقه لله، حتي يصبح عارفاً به او ولياً من اوليائه، كل ما اردته ان اتعرف على هذة اللغة الدسمة، التي يصعب هضمها، و لكن الاسهل أن تشعر بها، بشرط أن تبتعد عن قيود المنطق الحسي، و عن ضوابط ماديات العقل كل البعد.
في يوم قال لي احد الشيوخ لن تصبحي صوفية أبداً بعقلك، لان الصوفي يصبح مجنونا، عندما تصبحي مجنونة، متحررة من قيود الحس العقلي، من الممكن ان تصبحي صوفية، وادركت حينها انني لن اصبح صوفية، لان العقل بمثابة الحياه بالنسبة لي، واصابني الاحباط، ثم قررت ان أقرأ لابن عطاء الله السكندري، احد كبار رجال التصوف، الذي أتهم بنبذ العقل، ومن قراءتي له وجدته مجرد اتهام، ناتج عن صعوبة فهم النص، وما وجدته ضد هذا الإتهام فهو يقول بوضوح، ان العقل نعمة قد انعم علينا الله بها فيجب استخدامه  في التفكير والتأمل، وكل ما يتحدث فيه هو ان الله بيده كل شئ ،و قادر اً علي كل شئ، ويدعو للإطمئنان، والتوكل على الله، ولم يقل لا تفكر و لا تعمل لتصبح مجنونا.
مما لا شك فيه ان الجنون في العشق من اجمل الاشياء من وجهة نظري ،ولكن لم اعرف الجنون في وقتها.
بعد فتره من الصمت و التوقف عن القراءة ،قررت ان اذهب الي مدينة مشهورة جداً عند أهل التصوف، يتوجهون إليه ويسمونه حج حميثراء، وهو مكان دفن فيه شيخ و عالم كبير مات فوق الجبل اثناء مسيرته للحج، قررت الحج مثلهم فذهبت الي هناك، و لم اتوقع أبداً ما حدث لي
لم يخطر في ذهني أبداً ما سألقاه هناك  ،رأيت بلداً كل شئ فيها مختلف عما تعودت على رؤيته، او توقعته، من ملابس، من لغة، من ابتسامات من فضول، وتساؤلات جميلة و خفيفة، من شعور ادخلني في حالة وكأنني ترددت علي هذة البلدة الصغير الف مرة، وان اهلها هم اهلي و يعرفونني جيداً  كأني فرداً من افراد هذه البلدة، و في ظل كل البساطة التي عايشتها في هذا المكان، من اهل البلد، من بيوت، من شوارع قد تجعلك تظن انهم جهلاء بسطاء، لكن عندهم علم لم اكن اتوقع ان أعايشه، و عندهم احترام و تقبل للاخر لم ار مثله في اي مدينة من قبل، ثم ذهبت إلى الفندق الذي اقيم فيه لاخذ قسطاً من الراحة حتي اواكب المسيرة ليلاً الي حميثرة، التي تبعد عن القرية بحوالي أربعمئة كيلو متر ، دخلت غرفتي التي اشبه ما تكون غرفة قصر، تنسدل الستائر علي الارض الخشبية، وترفرف من الهواء الذي يدخل من الشبابيك الخشبية الصغيرة، التي ترى منها البحر الازرق الملئ بالجمال و الشاطئ المدهش الذي يجلس على ضفافه السكان بشكل هادئ و مرتب ، ثم وضعت رأسي علي المخدة بهدوء و سكون يملأ نفسي و تفكير مرتب لا ضجيج لا اصوات عاليه ، لا تشوش داخلي بل فقط سكون و هدوء وراحة لم اشعر بها من قبل، كل شئ مختلف و جديد ،وها انا سأخلد الي النوم فاخذت سبحة شيخي الأدريسي و آخذت اسبح الي الله حتي انام ، وقبل ان اغفو رايت أمي يقظة، بشكل واضح جداً و كأني جالسه معها وأنا في بلد و هي في اخري، اراها بوضوح شديد، لقد اصابني الفزع و قمت الى الهاتف، هاتفت أمي ووصفت لها ما رأيت، و اجابت بدهشة نعم هذا ما ارتديه و هذا ما افعله، وهذا ما قلته، ادركت وقتها كلام الشيخ عن الجنون، جنون العشق اصابني، و من هنا بدأت الرحلة …
وللحديث بقية

مجلة الشراع