هل السفسطة والسوفسطائيين في جدال عقيم وباطل / بقلم عبد الهادي محيسن

الشراع 6 شباط 2022

تعودنا في المراحل الشبابية من حياتنا أن نهاجم أصدقئنا ونتهمهم بالسفسطائية ونحن في حالة جدال عقيم معهم ، إلا أنه في واقع الحال أن من يضطلع على سيرة السفسطة منذما قبل التاريخ من خلال الفلسفة اليونانية ، يجد أنها ليست كما فهمها جيلنا بأنها حوار في باطل ، فمن محاسن السفسطة أنها غير منافقة فهي تؤمن بالحقيقة النسبية قولا وفعلا .

إن العدالة الإجتماعية هي هدف جميع المذاهب الإجتماعية المعاصرة وهي محور الجدل القائم بينها ،

ولنا أن نقول هنا بأن هذه المذاهب الإجتماعية على اختلاف آرائها تفهم العدالة على نفس الأسس التي فهمها السوفسطائيون القدماء .
كان أفلاطون يرى بأن العدل عبارة عن فكرة مجردة يمكن الوصول إليها عن طريق التفكير السليم ، أما السوفسطائيون فكانوا على العكس من ذلك يرون العدل من صنع التاريخ ونتيجة من نتائج التفاعل الإجتماعي ، ومعنى ذلك أن العدل ليس فكرة مجردة قائمة في الفراغ إنما هو صنيعة التطور التاريخي .
ومن المباديء السوفسطائية المعروفة قولهم : ” أن الإنسان مقياس كل شيء ” استطاع السوفسطائيون بهذا المبدأ أن يخدموا الفكر البشري خدمة كبرى … يقول البروفيسور زيلر بهذا الخصوص : أن الخدمة الدائمة التي قدمها السوفسطائيون للفلسفة هو أنهم وجّهوا الأنظار نحو دراسة الإنسان ووضعوا الأساس للتربية النظامية .
وذهب السوفسطائيون الى أن الحقيقة هي تناقض وتنازع ….

فكل إنسان يرى الحقيقة كما تقتضيه مصالحه وشهواته

وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الإنساني بوجه عام ، ولو أن القدماء فهموا هذه النظرية السوفسطائية حق فهمها وأعطوها ما تستحق من عناية لاختفى جزء كبير من الظلم الذي كان يعج به التاريخ القديم .
والملاحظ أن طغاة الزمان القديم كانوا أولي عقلية أفلاطونية من حيث لا يشعرون أو يشعرون ، فقد كانوا يقيسون العدل بمقياس ما يشتهون ثم يظنون أن مقياسهم هذا خالد مطلق لا جدال فيه ، وبهذا وجدناهم يظلمون الناس من حيث يظنون أنهم عادلون ، فإذا اعترض أحد عليهم  صاحوا ” يا جلاد خذ عنق هذا الزنديق ” .
لقد فطنت الشعوب في القرون الحديثة الى خطأ هذه النظرية الأفلاطونية في مفهوم العدل ، وأخذت تميل قليلا أو كثيرا الى النظرية السوفسطائية وبهذا أصبح مفهوم العدل هو ما ترتئيه أكثرية الناس ، فالناس أعلم بحاجاتهم ومشكلاتهم من ذلك المتحذلق الأفلاطوني الذي يتأمل في أمر العدل وهو قابع في برجه العاجي .
الواقع أن السفسطة كانت فلسفة ذات أهمية إجتماعية لايستهان بها ومن سوء حظها وحظ البشرية أنها غُلبت أو قُتلت في مهدها ، فأصبحت محتقرة والمغلوب محتقر دائما ولذا أخذ المفكرون ينسبون إليها كل نقيصة ويجردونها من المحاسن ، إن السفسطة لم تكن خالية من العيوب على أي حال ولكن هذه العيوب لا يجب أن تعمينا عن رؤية محاسنها .
ومن محاسن السفسطة أنها كانت تنتقد عبادة الأوثان التي كانت تذخر بها ديانة الإغريق القدماء ، ولهذا كان العوام الذين يمجدون الأوثان من ألد أعدائها لأن السوفسطائيين أذاعوا التشكيك في الدين الوثني وسخروا من شعائره وعُدَّ هذا من أكبر عيوب السفسطة ، متناسين أن الدين كان حينذاك لا يختلف عن دين الجاهلية الذي حاربته الأديان السماوية .
هاجم السوفسطائيون آلهة الإغريق القدماء وشككوا بوجودها ، فثار عليهم سدنة تلك الآلهة والمنتفعون منها وأخذ رجال الدين عند ذلك يتظاهرون أمام الناس ، بأنهم حماة التراث المجيد والمدافعون عن عقائد الآباء والأجداد وأنهم دعاة الحق والحقيقة ، فهب السوفسطائيون في وجوههم قائلين : ” ما هي الحقيقة ؟ إن الإنسان هو مقياس الحقيقة ! ” وليس هناك مبدءاً إصلاحيا أروع من هذا المبدأ السوفسطائي العظيم .
من العيوب التي اتصفت بها الفلسفة السوفسطائية أنها أثارت الشك في ديانة الإغريق القديمة من غير أن تؤسس مكانها دينا جديدا وهذا عيب لا مراء فيه ، إذ أن الشك وحده لا يكفي للإصلاح ولا بد للمصلح الذي يشكك في صحة نظام قديم أن يأتي للناس بنظام أصح منه .
ونحن إذ نصف السفسطة بهذا العيب يجب علينا أن لا ننسى المبدأ القائل أن الشك هو الطريق المُفضي الى اليقين ، ولو درسنا تاريخ أي دعوة إصلاحية جديدة لوجدناها تنتشر بين الناس بعد أن يمر المجتمع بفترة من الشك والحيرة وهذا هو ما يعرف أحينا بفترة ” الإرهاص ” .
والناس لايستطيعون أن يعتنقوا دينا جديدا إلا بعد أن يشكوا قبل ذلك بصحة دينهم الذي وجدوا آبائهم عليه ، ومعنى هذا أن المشككين يظهرون عادة قبل ظهور أحد الأنبياء العظام إذ هم يمهدون بشكوكهم الطريق لدعوة النبي الجديد .
عبد الهادي محيسن …. كاتب وباحث .