الشراع 7 كانون ثاني 2022

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {لا يؤاخذكم اللهُ باللغو في أَيْمَانكم ولكن يُؤاخذكم بما عقَّدتم الأَيْمَان فكَفَّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفَّارة أيمَانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمَانكم كذلك يُبيِّن الله لكم ءاياته لعلكم تشكُرون} سورة المائدة.

يحتج الجاهل إذا ما نصحه ناصحٌ بترك بعض الكلمات التي تتضمن تكذيب الشريعة بقوله تعالى “لا يؤاخذُكم الله باللغو في أَيْمَانكم” للدفاع عن نفسه فيدَّعي أن ما صدر منه لغوٌ وأنه لا حرج في ذلك، وحقيقة الأمر أن هذا جهلٌ كبير وشرٌ مستطير إذ فرقٌ عظيم بين الإِيمَان والأَيْمَان ومن لم يعرف هذا الفرق لم يعرف معنى الإِيمان على الحقيقة، وهذا من جملة الجهل الذي ابتُلي به كثيرٌ من الناس اليوم وإزاء ذلك يُناسب بيان الصواب في هذا الخُصوص فنقول: الإِيمان بكسر الهمزة: هو لغةً التصديق. وشرعًا: هو تصديقٌ مخصُوصٌ وهو التصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أي الاعتقاد الجازم بصحة ما أتى به وبلَّغه عن رب العالمين تبارك وتعالى من نحو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ونعيم القبر وعذابه وأمور التحليل والتحريم لبعض أفعال وأقوال العباد وما أخبر به من نحو إخباره ببعض ما حصل في الماضي وبعض ما يكون في المستقبل والإقرار بفرضية الصلاة والزكاة وصيام رمضان والحج للمستطيع وغير ذلك مما أوحى الله تعالى به إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسع أحدًا جحودُ ذلك ولا يكون مؤمنًا من لم يُقرَّ به فإن الإيمان بحقِّية ما جاء به نبينا وسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام واجبٌ، وبهذا المعنى يصح أن نقول: كل مؤمنٍ مسلم وكل مسلمٍ مؤمن لأن الإسلام والإيمان متلازمان شرعًا كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وكلام العلماء، وقد تقدَّم الكلام في تفصيل ذلك وبيان الدليل عليه في مقال سابقٍ بعنوان “الإيمان والإسلام” فلينظره من شاء.

ولكن يُناسب أن نُذكِّر بأن الإيمان والإسلام لا ينتفيان عن الشخص إلا بالردة والعياذ بالله وهي “الكفر بعد الإيمان” فمن تلوَّث بما ينقض الإيمانَ كأن كذّب حكمَ الشرع بعد العلم به أو كذَّب نبيًا من أنبياء الله تعالى سواء سيدنا محمدٍ أو غيره من المرسلين عليهم الصَّلاة والسلام فقد خرج من الدين ويلزمه العودُ إليه بالشهادتين، ولا يقال عن مثل هذا لغوٌ لا حرج فيه فالحذر الحذر. ومن قال هذا كان قوله ناشئًا عن جهلٍ شديدٍ جدًا ومصادمًا لكلام المعصوم، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار” رواه الترمذي. وبالتالي فمن فسَّر اللغو بمثل ذلك فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا.

اللغو والمنعقد

وإذا عُلم هذا فلندخل الآن في تأويل اللغو المراد بالآية أعلاه فنقول: قال تعالى “لا يؤآخذكم اللهُ باللغو في أَيْمَانكم” ولم يقل: في إِيمَانكم. أما الإِيمَانُ فهو ما أشرنا له آنفًا، وأما الأَيْمَانُ فجمعُ يمينٍ وهو القسَمُ أي الحلف، والكلام في تفصيل ذلك يطول ولكنني سأقتصر فيما يلي على تعريف اليمين المنعقدة ويمين اللغو. أما يمين اللغو الذي لا مؤاخذة ولا كفَّارة فيه فقد جاء تعريفه فيما رواه البخاري وابن الجارود وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة قالت: “أنزلت هذه الآية “لا يؤاخذكم الله باللغو في أَيْمَانكم” في قول الرجل “لا والله” و”بلى والله”. وفي “تفسير الطبري” عنها أيضًا قالت: “لا والله وبلى والله يصل بها كلامه” واللغو هو سقَطُ الكلامِ ويصدر من المرء في أثناء الحديث واستعجاله في المحاورة بغير قصدٍ إنما بطريق سبق اللسان أي لم يكن يريد قوله بالمرة فتراه يحلف ولا ينتبه فيقول مثلًا: والله سآتيك، عند قول صاحبه له زرني، أو والله سأفعل، عند طلب فعلٍ منه، وهكذا فإنَّ هذا لا حرج فيه لأنه جرى على اللسان بغير إرادة وترى من تلفَّظ بذلك لو قيل له: قد حلفت على كذا يقول: لم أنتبه أو يقول: لم أحلف لأجل أنه كان ذاهلًا حين قال ما قال. وبالتالي: لا ينعقد يمينه كما هو واضح في الآية أعلاه. أما إن عقَد اليمينَ أي حلف يمينًا صحيحًا متعمِّدًا بأن حلف بالله أو بصفة من صفاته كأن يقول “والله” أو “حياة الله” انعقد يمينه، ولا ينعقد اليمين إلا إذا حلف بالله أو بصفةٍ من صفات الله كأن يقول: وحياةِ الله أو وقُدرةِ الله. فلا ينعقد إذا حلف بمخلوق بل أفتى الإمام الشافعي بأن الشخص إذا حلف بمخلوقٍ وقع في الكراهة الشديدة وأفتى الإمام أحمد بحرمة ذلك، وكذلك لا ينعقد إذا أتى باللفظ محرَّفًا كأن قال “واللا” من دون الهاء كحال أغلب الناس لأنه في حقيقة الأمر لم يحلف بالله بل حلف باسم آخر ليس هو في تعداد أسماء الله الحسنى وعليه بسبب هذا التحريف ذنبٌ. وحروف القَسَم ثلاثة: الواو والباء والتاء فينعقد اليمين بقول: والله أو بالله أو تالله، فمن حلف على هذا الوجه فحنَث أي حلف أن لا يفعل كذا ففعل أو حلف أن يفعل كذا فلم يفعل لزمته الكفَّارة، وهي على التخيير بين إطعام عشرة مساكين من أوسط الطعام، ويجوز دفع قيمة ذلك لعشرة مساكين يعطي كل مسكين قيمة ما يُغدِّي ويُعشِّي في مذهب الإمام أبي حنيفة، أو كسوتهم لكل مسكين ثوبًا، أو تحرير أي عتق رقبة سليمة مما يُخلُّ بالكسب، ولا رقيق في بلادنا اليوم، وفي هذا بيان اعتناء الإسلام بالرقيق بالحث على منحهم الحرية بدل تركهم في العبودية. فإن عجز المرء عن خصلة من هذه الخصال عدَل إلى صوم ثلاثة أيامٍ متتابعةٍ أو متفرقةٍ أما إن كان قادرًا على خصلة من الخصال الثلاث المذكورة فعدَل إلى الصوم فورًا لا تبرأ ذمته.

هذا والكلام في هذا الموضوع يطول كما بينَّا ومن أراد الوقوف على المزيد من أحكام الأَيْمَان وتفاصيلها وأدلتها فليراجع أهل العلم.

والحمد لله أولًا وآخرًا.