الشراع 3 كانون ثاني 2022

إن التقليد والأصالة ليست قضية الشرق والغرب في القرون الأخيرة فحسب فالتاريخ يعيد نفسه وهو مليء بالحضارات الأصلية والحضارات المقلدة التي تعتمد على الإستيراد ، وإذا عدنا الى تاريخنا نرى أنه كان لدينا حضارتان : إحدهما الحضارة الرومانية أو البيزنطية أو الحضارة الغربية ومركزها تركيا الإغريقية وجزء من اليونان .
وكانت بيزنطة هذه أو الأمبراطورية الرومانية الشرقية مركز الحضارة المسيحية الغربية ووريثة الحضارتين الرومانية واليونانية السابقتان عليها .أما الحضارة الأخرى فهي حضارة إيران القديمة قبل الإسلام والمعروفة بالحضارة الساسانية وهي حضارة وطنية نابعة من البيئة نفسها أي كان الإيرانيون قبل الإسلام أصحاب حضارة وصناع ثقافة .
كذلك كان الرومان سواء في الأمبراطورية الرومانية الشرقية أو في الأمبراطورية الرومانية الغربية أصحاب تاريخ وحضارة وثقافة متقدمة وأصيلة وحقيقة وكانوا أناسا متحضرين ، وكان الى جوارهما أي بين إيران وبيزنطة المتحضرتين نوعان من المجتمعات ، العرب الغساسنة في بلاد الشام وعرب الحيرة في العراق ، ولما كان العرب الغساسنة في الشام يجاورون الروم الشرقيين فإنهم قلدوا الحضارة الرومانية وأتخذوا أشكال الحياة الرومانية المتحضرة .
أما عرب الحيرة في العراق وكانت تسمى بلاد ما بين النهرين ، فكانوا في محاذاة الحضارة الإيرانية القديمة وكانت الحيرة هي الأخرى ذات حضارة قديمة لكنها اندثرت ولم يبق أي أثر لهذه الحضارة القديمة التي نشأت في العراق أي الحضارتين البابلية والسومرية في العصر السابق للإسلام مباشرة أي عصر الساسانيين .
ولأن عرب الحيرة كانوا يجاورون إيران وعلى اتصال بها فإنهم قلدوا بدورهم أنماط الحضارة الساسانية ، ومن هنا نرى نمطين من الحياة بين العرب الذين كانوا يعيشون بين الحضارتين الشرقية الساسانية والغربية البيزنطية ، وكان ملك الغساسنة وأشرافه وأمراؤه وشيوخ قبائله يلبسون مثل أمبراطور الرومان ويشربون مثله ويجلسون للاحتفالات مثله ويجمعون حولهم الشعراء مثله ينشدونهم المدائح .
كانوا مثله يعدون اللقاآت العامة ذات المراسم ويتحركون في المجتمع سعيا وراء الفخامة والعظمة والتفنن في الطعام وكانوا في ملابسهم ومراسم الحياة عندهم أشباه قيصر الروم  أما العرب من جيران إيران أي أهل الحيرة الذين كانوا يعيشون في ما بين النهرين ، فإن ملوكهم من المناذرة مثل النعمان بن المنذر وإبنه المنذر بن النعمان كانوا يقلدون في عهد بهرام كور أنو شروان ملوك الساسانيين تقليدا تاما .
فملوك الساسانيين يشيدون القصور وأمير الحيرة هو الآخر يملك القصور وكانت قصور أمير الحيرة أكثر فخامة وأسطورية من ملك ملوك الساسانيين أنفسهم ، وهذا أشبه بالرأي القائل أن المقلد سبق الذي أخذ عنه فالقصور التي دخلت التاريخ كأسطورة لم تكن للروم في الأمبرطورية الغربية ولا للفرس في الأمبراطوية الشرقية بل كانت ملك أمراء الحيرة وهم من قبيلة عربية كون شيخها على علاقة بالبلاط الساساني .
وليست لقصور الساسانيين وقصور الرومانيين شهرة ما في التاريخ لكن قصور غسان والحيرة كالسدير والخرونق أسطورتان في كل كتب التاريخ في بلادنا وفي أوروبا أيضا ، ومن الممكن أن يكون الحديث عنهما مبلغ فيه ولكن من المسلم به أنها كانت قصور عجيبة غير عادية بالنسبة الى منازل الروم والفرس التي حيكت حولها القصص وتدل هذه القصص أن القصور العربية كالأساطير وكانت أفخم من قصور الساسانيين والرومانيين .
كانت هناك حضارتان أساسيتان في الغرب وفي الشرق في حين كانت يثرب قرية يعيش فيها بضع أسر من اليهود حياة بدائية وقبيلتان عربيتان هما الأوس والخزرج تعيشان في شحن وبغضاء فلا تجارة ولا صناعة ولا رساميل وكان أكبر مبنى فيها وأعظمه وأفخمه هو مبنى يخص كل يثرب وأعظم ما فيه أنه كان له سقف ولهذا سمي بالسقيفة .
وقد بني من جذوع النخل والجريد ولم يكن أحد يعرف الكتابة أما مكة فكانت مركزا تجاريا وبالتالي فإن عدد من كانوا يعرفون الكتابة فيها ما بين سبعة واحدى عشر شخصا وكان شعراؤهم لا يعرفون القراءة والكتابة .. كان هذا مجتمع المدينة بحضارته ومعماره وأحوال الحياة فيه وكانت الثروة في المدينة ضئيلة بحيث أنه بعد مجيء الرسول بأربع أو خمس سنوات وتحول المدينة الى قوة مركزية في البلاد اسُتخدم في غزوة بدر الكبرى حصان واحد وفي معركة أحُد جوادان .
بعد عشر سنوات من مجيء الإسلام أضحت المدينة تفور بالحضارة وذلك دون أن يستورد شيء من إيران أو من الروم أصبح يُرى فيها نبوغا وقدرة روحية لشخصيات عظيمة ووجوه ونفوس قوية ورجال كانت منبع إلهام لشخصيات عظيمة في التاريخ ، فمن داخل أجساد عارية يتجلى رجال عظام وبعد عشر سنوات أخرى يخرج بين هؤلاء رجال يستطيعون إدارة إيران الساسانية العظيمة ويستولي واحد من هؤلاء الرجال على أمبراطورية الروم ويستولي آخر على البحر المتوسط وشمال أفريقيا وإسبانيا ويعبر أحدهم جبل طارق .
رجال يستطيعون إدراة إيران الساسانية ومصر الفرعونية ويجتاحون القصور والقلاع والقوى والحضارات ويذيبونها ويجوبون ثلاث قارات ، هل جلبوا من الروم عددا من المهندسين والخبراء والفلاسفة ؟ وهل ترجموا كتب الإيرانيين والروم ؟ هل تغيرت الملابس ؟ وهل غيروا نمط الحياة والأزياء ؟ .
عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث