نظرية ابن خلدون وعلاقتها بالعامة وأوضاعهم الإجتماعية / بقلم عبد الهادي محيسن/ الشراع

نظرية ابن خلدون وعلاقتها بالعامة وأوضاعهم الإجتماعية / بقلم عبد الهادي محيسن

مجلة الشراع 15 تشرين ثاني 2021

إن العامة من الناس برأي ابن رشد يجب أن تكون لهم أهمية في تفكير الفيلسوف ورغم أنه كان يعتبرهم مرضى في عقولهم ولكن المرضى لا يجوز أن يتركوا ليهلكهم المرض ، بل إنهم يجب أن يعالجوا بالدواء الذي يلائم مرضهم ، والظاهر أن ابن رشد أخذ هذه الفكرة من ابن طفيل ثم طورها كما طور فكرة “التوحد” لإبن باجة .

يذكرنا رأي ابن رشد هذا بقصة نهر الجنون المعروفة حيث ألقي في نهر إحدى القرى عقارا يبعث على الجنون فشرب أهل القرية كلهم منه ما عدا الملك ، فأصبح أهل القرية يتهامسون بأن الملك صار مجنونا وأنه يجب خلعه فاضطر الملك أن يشرب من نهر الجنون لكي يكون “عاقلا” مثلهم وبهذا استطاع أن يحتفظ بعرشه .

كان ابن خلدون مطلعا على فلسفة ابن رشد ولعله كان يتأمل عند قراءته لآراءه ويتساءل إذا كان العامة مرضى والفلاسفة أصحاء أفلا يجوز أن نقلب الآية ونقول أن الفلاسفة هم المرضى والعامة أصحاء ؟ وإذا كان الأنبياء قد سايروا العامة في تفكيرهم فلماذا لا نسايرهم نحن كذلك ؟ إن ابن خلدون يوافق الغزالي في رأيه أن الفلاسفة شذوا عن الدين وخالفوا الشرائع السماوية .

فالإنسان يعيش لكي ينال السعادة في دنياه وفي آخرته وبذلك يكون العامة أقدر على نيل السعادة في كلا العالمين ، فهم في دنياهم يسيرون مع تيار الواقع الإجتماعي فيحصلون من جراء ذلك على الرزق والسعادة أكثر مما يحصل عليه المتمنطقون المتفلسفون ، والعامة قد يسعدون في الآخرة كذلك لأنهم سلموا من المعاطب التي وقع فيها الفلاسفة .

ورد في أحد فصول مقدمة ابن خلدون رأي يشبه قصة نهر الجنون السالفة الذكر حيث يشير ابن خلدون الى خطأ بعض الناس الذين يخالفون بعض العادات السائدة حيث يرونها غير صالحة فيتخذون عادات أخرى أصلح منها في نظرهم وهم إذ يفعلون ذلك يرميهم الناس بالجنون وفي هذا خطر عليهم وربما فقدوا بذلك ما لديهم من جاه وسلطان .

يبدوا أن هذا هو الذي دفع ابن خلدون الى الإعتقاد بأن المجتمع يسير على قوانين ثابتة لا تغير ، فالمجتمع يتألف من العامة وهم لا يقبلون أي تغيير لعاداتهم التي ورثوها عن آبائهم ، وإذا جاءهم أحد بما يخالف هذه العادات ثاروا عليه وحاربوه ، فالمجتمع إذن لا يخضع للأفكار الفردية أو الأهواء الخاصة إنما هو يجري على سنن محتومة هي تلك السنن المنبثقة من عادات العامة وأسلوب تفكيرهم .

إن مشاهدات ابن خلدون وتأملاته العميقة لشؤون الإجتماع الإنساني قد هدته الى الظواهر الإجتماعية التي لاتشذ عن بقية ظواهر الكون ، وإنها محكومة في مختلف مناحيها بقوانين طبيعية تشبه القوانين التي تحكم ما عداها من ظواهر الكون كظواهر العدد والفلك والطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات ، وهذه الحقيقة لم يصل إليها تفكير أحد من قبل ابن خلدون فقد كان المعتقد أن ظواهر الإجتماع خارج عن نطاق القوانين وخاضعة لأهواء القادة وتوجيهات الزعماء ودعاة الإصلاح .

يقول المستشرق تياي أن ابن خلدون كان فيلسوفا وأنه ينتمي الى أسرة الفلاسفة الكبرى ، ولما كان تونسيا ينحدر من أسرة أندلسية فلا غرو أن يكون في تفكيره الفلسفي إمتدادا لتفكير ابن رشد ، إلا أن ابن خلدون نقد المنطق الذي يسير عليه الفلاسفة نقدا شديدا كما فعل الإمام الغزالي الذي حاول تحديد المجال الذي يصح فيه استخدام المنطق الفلسفي ثم جاء من بعده ابن تيمية حيث ضيق نطاقه أكثر مما فعل الغزالي وجاء ابن خلدون يزيد النطاق تحديدا وضيقا .

كان من رأي ابن خلدون أن المنطق لا يفيد إلا في نطاق ضيق جدا وهو النطاق الذي يخص ترتيب الأدلة حيث يستخدم المنطق في تقديم براهينه للناس على صورة منسقة ومرتبة ، أما في عدا ذلك فاستخدام المنطق يؤدي الى برامج مغلوطة ومن هنا كان الفلاسفة غير قادرين على الوصول الى نتائج صحيحة في الأمور الإلهية وفي الأمور السياسية .

يتضح من هذا أن ابن خلدون كان صريحا في نقده للمنطق وفي تحديد مجاله تحديدا ضيقا ، وهو بذلك يختلف عن الفلاسفة الذين كانوا يعدون المنطق سبيل للتفكير الصحيح في كل الأمور الدينية والدنيوية ، وهنا يتبادر لنا السؤال : هل كان ابن خلدون فيلسوفا ؟ وللجواب يجب أن نحدد معنى الفلسفة والفيلسوف .

كان الناس قديما لا يطلقون إسم الفيلسوف إلا على من سار في خط الفلسفة الإغريقة وأخذ يتحدث بالمصطلحات الفلسفية التقليدية كالعقل الفعال والهيولى وواجب الوجود والدور وما أشبه ذلك حيث كانت هذه المصطلحات غامضة ويصعب على العامة فهمها ولعل الغموض كان مقصودا ، فإن ظهر مفكر ينقد هذا النوع من الفلسفة عدّه الناس خارجا عن دائرة الفلسفة وهكذا كان ابن خلدون .

عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث