إن هذا العِلمَ دين / بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

مجلة الشراع 2 أيلول 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا} سورة الإسراء.

لا ريب أن طلب علم الدين من أجلِّ الواجبات وأهم المهمات وأن الأمانة فيه أهم من الأمانة في المال ولذلك ينبغي للعاقل أن ينصاع للحق ويدور مع الدليل حيث دار ولو صدر من صغيرٍ أو فقيرٍ ولا يتردد في مراجعة الشيخ إذا أخطأ ليرده إلى الصواب وإن تكبَّر الشيخ ولم يقبل النصيحة فحريٌ أن لا يُتَّبع، وقد قال الشيخ عبد القادر الجيلاني في “أدب المريد”: “إذا علم المريدُ من الشيخ خطأً فلينبهه فإن رجع فذاك الأمر وإلا فليترك خطأه وليتبع الشرع”.

فإن الدين غالٍ والكلام فيما شرَعه الله ليس بالتشهي، وعلم الدين ليس مجرد فكرةٍ تخطر ببال فلانٍ أو فلانٍ فيقولها إنما هو شىءٌ يُتلقى من أفواه العلماء الثقات الذين تلقَّوا عن أمثالهم بسلسلة تتصل بأصحاب رسول الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الشريعة أمانةٌ عظيمةٌ ينبغي حفظها ومِنْ حفظها أن لا يخوض الشخص فيما لا يعلم فإن سُئل في مسألةٍ ما وكان صاحب علم بما سُئل عنه أجاب بما يوافق شرع الله وإلا قال لا أدري، فقد جاء في كتاب “آداب الشافعي ومناقبه” للرازي عن أحمد ابن حنبلٍ عن الشافعي عن مالكٍ عن محمد بن عَجْلان أنه قال: “إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله” أي هلك.

إن هذا العلم دين

فليس عارًا أن يقف المرء عند حدَّه، وإنما العار أن يُفتي في دين الله بلا علم أو يستدرك برأيه السقيم على الشرع الشريف فيضلَّ ويُضل كما هو حال بعض أدعياء الثقافة.

ففي “المجموع” للنووي أن الإمام الشافعي قال: “من سام نفسه فوق قدره ردَّه الله إلى قيمته” أي من جعل نفسه فوق منزلته يُظهر الله حاله للناس أي يفضحه.

وإذا ما كان المرء يحتاط لأمر دنياه فبالأولى أن يحتاط لدينه فيسأل عما يحتاجه عالما ورعًا ناصحًا ذا شفقةٍ على المؤمنين، وقد ذكر الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أن الإمام مالكًا قال: “ما جلستُ للفتوى حتى شهد لي سبعون شيخًا أني أهل لذلك”. وروى مسلم عن التابعي الجليل محمد بن سيرين أنه قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.

وفيما يأتي أدعو القارئ للتأمل قليلا: روى الصيمري في كتاب “أخبار أبي حنيفة وأصحابه” “أن الحسن بن زياد اللؤلؤي (من كبار أصحاب أبي حنيفة) استُفتي في مسألةٍ فأخطأ فلم يعرف الذي أفتاه فاكترى (استأجر) مناديًا يُنادي: إن الحسن بن زياد استُفتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بشىءٍ فليرجع إليه، فمكث أيامًا لا يُفتي حتى وجد صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ وأن الصواب كذا وكذا”.

وعن القاسم بن محمد بن أبي بكرٍ الصديق “أن رجلًا سأله عن شىء فقال القاسم: لا أحسنه. فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك لا أعرف غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه” رواه ابن الصلاح في “أدب المفتي والمستفتي”.

وفيه أيضًا: عن أبي حُصينٍ الأسدي قال: “إن أحدكم ليتكلم في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر”. أي لجمعهم لسؤالهم فيها وأهل بدر صفوة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا عُلم هذا فما بال كثيرٍ من متمشيخي اليوم يستنكف الواحد منهم عن الرجوع للحق وقول لا أدري ويتكبَّر عن نُصح النَّاصحين وإنما الحريُّ به أن يقف عند حدِّ الشرع وهذا شأن من يخشى الله.

الأمانة في العلم

 ونقول لكل من صار مقصدًا للناس في الفتوى: إن سُئلت في مسألة فاعلم أن السائل إنما يسأل عادة من وثق به وظن به خيرًا فكن عند حسن ظن السائل فإنما سألك لأنه يأخذ كلامك على محمل الجد ويعتقد أن ما تجيب به هو حكم الشرع، ولا شك أن تحري الصواب في الإجابة عندئذ أمانة عظيمة لا بد من حفظها وإلا كنت غاشًّا أفَّاكًا أثيمًا فانظر ماذا تقول لأنك إن أفتيتَه بغير علم فخالفَتْ مقالتُك الشرع فاعتقد كلامك وعمل به فقد أهلكت نفسك وأهلكته، وهذه خيانة وفساد وسوء حال.

وليُعلم أن السلامة في الدين لا يعدلها شىء، فإنه لو سُئل شخص عن ألف مسألة فأجاب إجابةً صحيحةً عن تسعمائةٍ وتسعةٍ وتسعين وأخطأ في واحدة من الألف، وسُئل آخر عن ألف مسئلة فأجاب عن مائة على الصواب ولم يجب عن التسعمائة، فهذا أفضل من الأول في هذا الأمر، فينبغي لطالب العلم أن يلتزم بالمنقول عن الثقات الثابت عن الأئمة وأن يُعوِّد نفسه على قول لا أدري حيث لا يدري وإلا هلك.

ومن جملة البلايا التي استشرت في هذا الزمن العصيب أن صار كثيرٌ من الناس يستسهلون الفتوى فيخوضون في الكلام في أحكام الشرع بغير علمٍ إنما بما يرون برأيهم السقيم والحقيقة أنه ليس في العلم شىءٌ خفيف فقد روى ابن الصلاح في “أدب المفتي والمستفتي” “أن الإمام مالكًا سُئل في مسألة فقال: لا أدري فقيل له: إنها مسألةٌ سهلة فغضب وقال: ليس في العلم شىءٌ خفيف أما سمعتَ قوله جلَّ ثناؤه: {إنَّا سنُلقي عليك قولًا ثقيلا} سورة المزَّمل. فالعلم كله ثقيلٌ (أي أمانة عظيمة) وبخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة” وبالتالي فإن الفتوى بغير علم ترمي صاحبها في الحضيض وتُفقده الثقة في قلوب الناس، وكم نرى ممن يتصدَّر للعلم وليس أهلًا لما أُنيط به، فكم من أناس هلكوا وأهلكوا غيرهم بسبب تسرعهم في الخوض في المسائل بغير هدى بل بالقياس الفاسد كشأن كثير من المنتسبين للعلم في عصرنا هذا فسُفكت بفتاويهم الباطلة الدماء وانتهكت الحرمات واتُهم مؤمنون بالكفر زوراً فدُمرت الأوطان وانحرفت البندقية عن العدو الحقيقي الجاثم على أرض فلسطين الحبيبة، وإزاء ذلك فتحرَّى لدينك جيدًا وإياك أن تخدعك المظاهر فلقد قيل:

لا تأخذن من الأمور بظاهرٍ                              إن الظواهر تخدع الرائينا

والحمد لله أولًا وآخرًا.

 مجلة الشراع