متفرقات

الموضوعية في حياتنا ميزان ذهب/ مساهمة من الدكتور سابا زريق

مقالة نُشرت في صحيفة النهار في 23/2/2021

“الموضوعية في حياتنا … ميزان ذهب”

 

–  “الموضوعيةُ” تعبير نردده معتبرينَ بأنَّ له معنًى محصورًا بينما تتجاوزُ أبعاده ُ مفهومَه اللفظي، الجامدَ ظاهرياً. فهو ينطوي على ديناميَّةٍ سوفَ أسعى الى تَظهيرِها في ما سوف يأتي. إذا لجأْنا إلى المعاجمِ وجَدْنا له أعدادًا من المعاني تُدخِلنا في متاهةٍ نظريةٍ مشَتِّة. ولما كانت الأضدادُ بالاضدادِ تتمايز، علينا ان نستقصي عن اخصامِ الموضوعيةِ أو تلك المؤثِّراتِ التي تحُولُ دون ممارستِها ممارسةً سليمة، لنقفَ على جوهرها. تُعرِّفُ المعاجمُ “الموضوعيةَ” على أنها التفتيشُ عن الحقيقةِ والبُعدُ عن التحيّزِ والذاتية.  ويعتبرُ علماءُ الإجتماعِ أنَّ المعرفةَ والقِيَمَ الإنسانية هي موضوعيةٌ في وجودِها ومحدّدةٌ بطبيعتِها الواقعية. كانتِ المفكِّرَةُ الروسيةُ الأميركيةُ آني راند، الخَصْمَ اللدودَ للمفكِرالشمولي؛ وهي القائلةُ: “الواقعُ مُعطًى موضوعيٌ، الكونُ هو كما هو وليس كما نريدُهُ أن يكون، وتَمَنّي خلافَ ذلك لن يجعلَهُ كما نُريد”.  كانتْ تؤمن بأنَّ عقلَ الانسانِ هو الأداةُ لإدراكِ الكون، إلى قناعتِها بأنه ينبغي ألا تستندَ الأخلاقُ على الأحاسيسِ العاطفيةِ أو المعتقداتِ الإيمانية، بل على العقلانيةِ المبنيةِ على المنطق، كَونُ العقلانيةِ مِعياراً للقيم. أن نفكرَ موضوعياً هو أن نلجأَ إلى عقلنا لإدارةِ تفكيرِنا. فنقولُ إنَ فلاناً يفكرُ موضوعياً، أي أنه يُسنِدُ أحكامَهُ إلى الحقائقِ، بعد استشارةِ عقلِهِ. من العسيرِ أن يتمكنَ أيُ إنسانٍ من ممارسةِ موضوعيةٍ مُطلَقَةٍ، لأنه لا بدَّ أن تتداخَلَ معتقداتٌ وأحاسيسَ ومسلَّماتٌ تعيشُ فينا لِتغيّرَ من طبيعةِ الحقيقةِ وتؤثرَ، إيجاباً أم سلباً، على تفكيرِنا. فالتخلّي عن الذات، الذي يتطلبُهُ التفكيرُ الموضوعي، مستحيلٌ لأنه يُبعِدُنا عن حقيقةٍ تَمُسُّ ليس فقط بالوجوديةِ، بل بمواضيعَ إيمانيةٍ شائكةٍ قد لا نرغَبُ في التصدّي لها. يؤدّي عدمُ ممارسةِ الموضوعية الى الالتزامِ الأعمى بإملاءاتٍ دون اي تحليلٍ أو تقييم، كما في الممارسات السياسيةِ والطائفية، وحتى المناطقية، حيث تؤدّي تراكماتٌ لُقّنّا إياها إلى تحييدِ عَمَلِ العقل.

– إن مفهومَ العلومِ ومفهومَ الحقيقةِ مندمِجانِ إلى أبعدِ الحدود. فلا جدلَ في الحقيقةِ العِلمية، ففيها حقيقةٌ يَسْهَلُ إثباتُها. وإن لم يتفق شخصان عليها، كان أحدُهُما مُخطئاً لا محَال. فالموضوعية العلمية  تقضي حكماً على التفاعلاتٍ الذاتية. وقد اختصرَ الفيلسوفُ الإلماني هيغل ما سبق دَلوُهُ بقولِهِ: “إنّ المنطقيَّ حقيقيٌ والحقيقيَّ منطقيٌ”. إن الموضوعيةُ الفلسفية، تقضي بأنّ المعرفة، أي معرفةَ الواقعِ والحقيقة، ترجعُ “الى حقيقةٍ غيرِ الذاتِ المُدْرِكة”؛ ويُجْمِعُ الفلاسفةُ على أنّ البشرَ يتعاملونَ مع الحقيقةِ مباشرةً من خلالِ الإدراكِ الحِسّي ليُحَصِّلوا معرفةً موضوعية. أما الموضوعيةِ في العلومِ الانسانيةِ فهي أقلُّ دقّةٍ من سواها لأنّ هذه الموضوعية تعتمدُ حُكماً على نظرةٍ ذاتيةٍ للإنسان، وهذه النظريةُ، التي تَوصَّلَ إليها عالِمُ الاجتماعِ والفيلسوف الالماني، ماكس فيبر، تؤكدُ على اللُحمةِ التي تنشَأُ في بيئةٍ ما بين أفرادِها، بفضلِ تطلّعاتِهم المشترَكة المتشابهة. وهنا يبرُزُ التضاربُ بين المقاربةِ الانسانيةِ للحقيقةِ والمقاربةِ الموضوعيةِ لها. ومنهم من يعتقدُ أنّ العلومَ الإجتماعية هي موضوعيةٌ لأنها وليدةُ التجاربِ. لا أوافقُ شخصياً على هذا التحليل، لأن العلومَ الإجتماعيةَ هي رَهنٌ بالمحيطِ الذي يتفاعلُ ضِمْنَهُ أركانُها، فهي تختلفُ بأختلافِ جُغرافيتِها.

–  للموضوعيةِ في حياتِنا أخصامٌ على درجاتٍ متفاوتَةٍ من العداوةِ حيالِها، ألدَهم “الذاتيةُ” ومفهومُها أن تكونَ المصلحةُ الشخصيةُ مِحوَرَ تفكيرِ وأداءِ الإنسان. إن هذه المقاربةَ تعني أن هذا الانسانَ قد يلامسُ حقيقةً ما، أو يبتعدُ عنها كثيراً. وقد يكونُ الإلتزامُ الديني من أبرزِ انعكاساتِ الذاتية في مجتمعِنا الشرقي، حيثُ تعلو المعتقداتُ الطائفيةُ والمذهبيةُ فوق كلِّ اعتبارٍ آخَر ويكونُ لها تأثيرٌ بالغٌ في التصرفاتِ والممارساتِ الإجتماعيةِ والسياسية. تولّدُ الذاتيةُ، في أسوإِ حالاتِها، تشبُّثاً يُغلقُ بابَ العقلِ والحوارِ ليفتحَ بابَ التشاحُنِ والفتنة. مما يجعلُ حلَّ الخِلافاتِ العقائديةِ ضَرباً من الأوهام؛ فمفاضلَةُ الذاتِ تأتي على الاستقلالية. ومن يعتقد أن الموضوعيةَ والحِيادَ حليفان، وأن الحيادَ صفةٌ حتميةٌ لأي تفكيرٍ موضوعي، مخطئٌ، لأن الفرق بينهما شاسعٍ. فإذا كان الحِيادُ يعني عدمَ اتخاذِ قرارٍ ما، لأيِ اعتبار، فالموضوعيةُ تقضي بوجوبِ اتخاذِ قرار. أما إذا عُنيَ بالحِيادِ عدمُ تفضيلِ رأيٍ أطلَقَهُ عمرٌ على رأيٍ مخالِفٍ أطلقهُ زيدٌ، فالاستنادُ إلى تفكيرٍ شخصيٍ يدعم أحدَ الرأيين، وهذه هي الموضوعيةُ بعينِها.

–  إن أبرزَ ساحةٍ لممارسةِ حريةِ الرأي هي الساحةُ الإعلاميةُ، بالإضافةِ بالطبعِ إلى طامةِ هذا العصر، أي وسائلُ التواصلِ الإجتماعي. فالخبرُ يحرِّكُ المساراتِ ويبني كما يهدّم. لا يفّرق بعض الاعلاميين بين إبراز الحقيقةِ وإبداء رأيِهم الخاص. فمنهم من ينشُرُ أخباراً تُرضيهِ، أو تُرضي مِلَّتَه، أو تُرضي حِزبَهُ وإن كانت مجافيةً للحقيقة. أما الخطيئةُ الأكبرُ فتكمنُ في فبركةِ الخبر لإيهامِ القارئِ أو المستمعِ أو المشاهدِ بأنه حقيقي. أما مقدماتُ الاخبار، وبخاصة التلفزيونية منها، فهي لم تعدُ كونها ترداداً لسياسةِ المحطات التي تدّعي الاستقلالية، وهي مشبعة بالخلفياتِ الحزبيةِ أو المذهبيةِ أو الطائفية. ومن أبرزِ التحدياتِ التي تواجه الإعلاميين الإلتزام بالموضوعيةِ عند تغطيتِهِم للأخبارِ العاجلة؛ إذ قلّما تكتفي وسيلةٌ إعلاميةٌ بنقلِ الخبرِ او الصورةِ دونَ أيّ تعليق. هم يتبارونَ لرفع مستوى التمويلِ السياسي، فتسودُ الذاتيةُ على الموضوعية. أما الموضوعيةُ المُثلى في الإعلام فهي تفرُضُ أن تقومَ الوسيلةُ الإعلاميةُ بإتاحةِ الفُرَصِ أمامَ كافةِ التياراتِ والأحزابِ لإبداءِ رأيها، دون تشذيبٍ لأي كلمةٍ أو تجميلٍ لأي خبرٍ يصدُرُ عنها.  وإذا كانتْ تكنولوجيا التواصلِ عبرَ الوسائلِ الإلكترونية قد أصبحَتْ لنا جميعاً من أهمِّ مصادر الأخبار اليومية، فإن انتشَارَها السريع، يسَهّلُ نشرَ الاخبار الكاذِبةِ المُغرِضَة. ويرى الكاتبُ والروائيُ الفرنسي، أندريه موروا، أن “الحريةَ والمسؤوليةَ توأمان، لو انفصلَ أحدُهُما عن الآخر ماتا جميعًا”. فلا تستقيمُ ذريعةُ الدفاعِ عن حُريةِ التعبيرِ غيرِ المسؤولة، لكي تبَرِّرَ تجاوُزَ الإعلامِ حدودَ الحقيقة.

–   ترى آني راند، السابقة الذكر، أن التصويتَ السياسيَ هو أحدُ ابرزِ أمثلةِ ممارسةِ الموضوعية. فللقوانينِ الإنتخابيةِ دورٌ رئيسيٌ في تعزيزِ أو إحباطِ  الموضوعيةِ السياسية. فعلى سبيلِ المثالِ لا الحصر، إنَّ قانونَ انتخابِ أعضاءِ المجلس النيابي المعمولِ به حالياً في لبنان، والذي يحصُرُ، في بلدٍ طائفي ٍ ومذهبيٍ كبلدِنا، قرارَ الناخبِ بعددٍ قليلٍ جداً من الخِيارات، مما يجعلُ ممارسةَ الموضوعيةِ أمراً شائكاً جداً. وكذلك الامر، تذوب ارادة المنتسبين الى حزبٍ ما في قراراته لأنهم عند انتسابِهم يُقسِمون على الإنصياعِ لها كونها تُتَّخَذُ بأكثريةٍ ما وَفقاً لشريعةِ حزبِهم بحجة احترامهم لديمقراطيةٍ ما. كما وألِفنا اعتبارَ كلِّ ما يُقدِمُ عليه خصمٌ سياسيٌ أنه حتماً خطأ، ولو هو أصاب. فنخاصمُ كلَّ من لا يتماشى أو يتماهى مع طروحاتنا ونتعمّد ألا نضعَ على دفتّي الميزانِ نفسِهِ إلا سيئاتِ خصمنا السياسي. فمهما رجَحَتْ إحداهُما، تأتي النتيجةُ لصالحِ الرأي الأعمى. ولا تعودُ الأوزانُ أوزاناً، فتسقُطُ الموضوعيةُ ضحية ذلك. كما “ينبغي ان يتمتعَ القاضي بخِصالٍ ثلاث: الا يصانعَ، ولا يضارعَ ولا يَتْبعَ المطامِع”، وهذا قولٌ لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه. ومن نافلِ القولِ أنه على السلطةِ القضائية أن تكونَ مستقلةً عن السلطةِ التنفيذيةِ وعن السياسيين وبالطبع، عن الإغراءات الماديةِ التي يُمكِنُ أن تَلويَ قناعةَ القُضاة. من ابرز خصائص استقلالية القضاء رفعُ يدِ السلطةِ التنفيذيةِ عن آليةِ تعيينهم، وعهدُ هذا الأمرِ إلى مجلسِ القضاءِ الأعلىِ، وكذلك تحصينُ القضاةِ وتعزيزُ ايراداتِهم المالية إلى ما هنالك من إجراءاتٍ تضمَنُ ارتياحَ القاضي إلى يومِهِ ومستقبلِهِ وتجعلُهُ متفرِّغاً لإحقاقِ العدالةِ بمعزلٍ عن أي اعتبارٍ آخر.

–   لممارسة الموضوعية السليمة مفاعيل حميدة، أبرزها الاعتدال، كما خَلُصَ اليه إبن خلدون عندما اعتبر  “أنَّ النفسَ البشريةَ إذا كانت على حالٍ من الاعتدالِ في قبولِ الخَبَرِ أعطتْهُ من التمحيصِ والنظرِ حتى تتبينَ صِدْقَهُ من كَذِبِهِ”، معتبراً، بموجبِ قانونِ المطابقةِ الذي أرساه، أنه يجب اعتمادَ معيارٍ لقياسِ الصدقِ أو الكَذِبِ في الأخبارِ التاريخية، ليتبيَّنَ زَيْفُ الخبرِ من صدقه وبهكذا مقاربة يكون الاعتدالُ نتيجةً للإتزانِ في التفكيرِ الموضوعي. “إن الإنصافَ هو عدالةُ ما يأمُر بهِ القانون”، على حد قول أرسطو. فممارسةِ التفكيرِ الموضوعي أقربُ طريقٍ لتحقيقِ الانصافِ. نفورُ ونثورُ أحياناً دون تقديرِ عواقبَ فورتِنا أو ثورتِنا. نسمعُ خبراً ما، أو كلمةً مؤذية، فنبادرُ بردّاتِ فِعلٍ تُمليها علينا غريزتُنا، غالباً ما نندمُ بعد ذلك على تسرُّعِنا المتهور. إن الموضوعيةَ تحتِّمُ علينا التمهُّلَ والتريُّثَ للتفكير، أي إعمالُ العقلِ، الذي يقضي على أهواءِ الغريزة. فـ “العقلُ حسامٌ” على لسان الامام علي بن ابي طالب، رضي الله عنه. نعم، إن للموضوعيةِ في حياتِنا مكانٌ مرموقٌ، وهي ميزانٌ بدقةِ ميزانِ الذهب. تُوَجِّهُنا نحو العدالةِ والإنصافِ والإتزان، وتجسّدُ استقلاليتَنا فنُرضيَ الخالقَ والخَلْقَ.

 

د. سابا قيصر زريق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi