اخبار لبنان

درباس ل”مستقبل ويب”: رفيق الحريري وجان عبيد “كيميائيان بالفطرة”

استذكر الوزير السابق رشيد درباس عبر”مستقبل ويب” الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعلاقته بالنائب الراحل جان عبيد بهذا المقال :

“تعلمت في الكيمياء أن العناصر المتضادة، إذا احتواها إناء واحد ووافقتها ظروف ملائمة أحدثت انفجارًا؛ وبَلَوْتُ هذا فعلًا عندما كانت الشرارات تحرق أصابعي، وتخرق ثوبي الأبيض من قلة درايتي وعجزي عن تأليف المتناقضات .

ولقد مارست فيما مضى حماستي السياسية على المنوال ذاته، فاكتشفت متأخراً أن السياسةَ أعلى فنون الكيمياء، وأن الكيميائي الفذَّ ليس من أحسن استخدام العوامل المؤلفة والمحفزة (catalyseurs) وكتابة المعادلات وإجراء الاختبارات وحسب، بل هو أولاً من فَقِهَ الفلسفة، وحفظ الشعر، وخاضَ في الأديان، وَفُطِرَ على الخير. وهذا ما رفع الشيخ الرئيس ابن سينا إلى سدته، وبوَّأ ابنَ رشد مكانته؛ ذلك أن المواد ذواتُ أرواح إذا حَسُنَت وفادتها حَسُنَت نتائجها، وإلا فالانفجار عاقبةُ العبث بالسوائل الخطرة والنظائر المشعة. فالسياسة من معانيها السلاسة والكياسة، إن امتطاها من أراد تغييراً لمقصدها ووجهتها، حَرَنَتْ، وحَمْحَمَت، وَرَفَسَتْ، ولكن الراكب الغِرَّ يحسب ذلك مجداً وَيُدَوِّنُ التعطيل في سجل إنجازاته .

ما وجدت أنسب من مَثَلِ الكيمياء لأتحدث عن اثنين: الأول مات في عيد الحب، والثاني قبيل الحب بقليل، ذلك أن اللفظة تُعَبِّرُ أيضاً عن تآلف الأنفس والطبائع، إذ إن رفيق الحريري ما كان يطلُّ بابتسامته الواثقة والموثوقة إلا ليسرَبَ إلى القلوب، لأنه كان يحمل عشقاً للناس، وإرادة واعية لخدمتهم؛ فلما دخل بيروت في ذلك الليل المظلم الذي تقاسمته المتاريس، وحامت فيه البوم والوطاويط، طلب إلى الفضل شلق جَلْبَ مُوَلِّد عملاق يضعه في وسط العاصمة لكي يطرد فلول الظلام ويعيد إعمار مدينة عريقة للمستقبل؛ ذكرني هذا، بالكيميائي الفرنسي العظيم Lavoisier الذي بدأ محاميًا، ثم ابتكر نظامًا جديدًا لإنارة شوارع باريس، ثم لقب بعد ذلك بأبي الكيمياء. لكن الثورة الفرنسية أعدمتْهُ وسَط عاصمة النور، بحجة “أن الجمهورية ليست بحاجة إلى علماء”، كما جاء في متن الحكم الذي اعتبر أكبر وصمة في تاريخ فرنسا. ولقد أعاد التاريخ نفسه عندما أنزلت عقوبة التفجير برفيق الحريري وسط عاصمته تنفيذًا لحكم مضمر، يقول مضمونه:” لبنان ليس بحاجة إلى إعمار بل إلى بيئة حاضنة للممانعة “.

أما جان عبيد فقد رحل كما قلت قبل الحب بقليل. هو الذي بمحبته أدخلني إلى محبة رفيق الحريري إذ كان مرشحه الدائم لرئاسة الجمهورية، حيث قال لي الرئيس مرة ممازحًا: “لا بديل عن جان للرئاسة ولكنني أنا من سيعينك وزيرًا لا هو”. رَحَلَ ولم يكن يُعِدَّ نفسه ليكون ضحية لغدر سخيف، على حد تعبيره، إذ نجا قبل هذا من الاغتيال والخطف والظلم، وبقي محافظًا على لياقته الكاملة، شكلاً وصحة ومضمونًا. فكيف عصى عليه الوباء وقد رَوَّضَ من قبلُ العتاة، وقفز فوق أودية الطوائف، واستولد من تجاور النار والبارود بساتين للتسامح والتصالح، وجعل من نفسه مستديرة وطنية تلتف حولها المركبات بأنواعها، من غير اصطدام أو توقف أو عرقلة؟ وهذا ما دعاني للقول إن الحكم يحتاج إلى مثل هذه المستديرة، لا تلك المتاريس. وكم هو مؤلم أن يتحول جان إلى “فخامة الراحل” كما وصفه الرئيس بري، وهو المقيم العنيد خائض الغمار الذي دخل إلى الندوة النيابية أربع مرات، وخسرَ في العام 2009 دورةً كانت أنبل معارك طرابلس .

رمى الملكُ النعمانُ المهندسَ “سِنِمَّار” من فوق قصر “الخَوَرْنَق” الذي بناه حتى لا يكون له نظير، ودُفِنَ مهندس بيروت في عمق العاصمة كي تشطب من سجل العواصم، وتلتحق بركب لن يستطيع أن يسلك في هذه الأرض. لأننا لو عدنا إلى الكيمياء لوجدنا أن مختبر السادس من شباط، لم تنجز أجهزة الطرد فيه إلا إشعاعًا مؤذيًا للصحة، وأنه رغم وضعه تحت الرعاية الحازمة والصيانة الدائمة، بدأت عناصره بالتفكك بعد اضمحلال الـ (catalyseur) وتنافر التساكن وتململ الأمزجة. إنها حقًّا لمعادلة صعبة أن يقبل المرء حَمْلَ فيلٍ على كتفيه ثمناً لتمكينه من ركوب دابة مهيضة .

في عيد الحب أتحدث عنهما واللسان فاقد الطلاوة والقلم عسير الحبر، والقلب يابس.. فما زالوا يُحمِّلُون الحريرية أوزار أعمالهم، كمن يُحَمِّلُ نعومة الحرير خشونة الخيش الذي ينسجونه بُرْدَةً متعسفة للبنان، وهو الذي لن يخلع عمامة ثلجه وجلباب سهله وآفاق بحره .

قال العالم جوزيف لاجرانج للقاضي الذي حكم على لافوازييه بالموت ” إن قطع رقبة لافوازييه لا يستغرق دقيقة واحدة، ولكن مائة سنة لا تكفي لتعوضنا عن واحد مثله “.

أختم بما قاله جان عبيد في رفيق الحريري غداة استشهاده في مجلس النواب :” نحن جميعًا في حداد وحزن. وحزننا كبير لأن شهيدنا كبير. وتعلقنا بالأحباء الكبار ليس دليل ضعف بقدر ما هو إصرار على التخليد، لأن من يمت على رجاء القيامة ينتقل من الحياة إلى الحياة، لا كسائر الذين يعيشون، وهم في الناس أموات .”

ولمن لم يتعظ بعد، هي ذي جنازة لقمان، أفلا تتعظون”!؟

رشيد درباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi