متفرقات

مصطفى الرافعي.. وحي القلم في محاريب الجمال

أمين حبلا

على مدى سبع وخمسين سنة عاش مصطفى صادق الرافعي رحلته المفعمة بالحب والجمال والأشواق الربانية، وفي عمق الحضارة الإسلامية واللسان العربي عاش الرجل الذي اتخذ من مصر الكنانة مستقرا لأدبه ومستودعا لمداده وجثمانه.

من ضفاف بردى والغوطتين وفدت أسرة الرافعي ذات الأصول الكريمة التي تمتد حتى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله، وبقي في قلم الرافعي ذي الأصول السورية وهج شامي يضيء بين الحروف، فمن دمشق ولد الجمال:

الحب يبدأ من دمشق فأهلها
عشقوا الجمال وذوبوه وذابوا

على حد تعبير شاعر الجمال والحب نزار قباني.

وقد تعلق خصوم الرجل بشاميته الأصيلة، وكون أسرته قادمة من بلاد الشام، فبدأ بعضهم يطعن في وطنيته، وكان يرد عليهم متسائلا هل في وطنيته وحبه لمصر شك وقد نبتت فيها عروقه وزهت أغصانه واحتوت أرضها أجساد جيلين من أسلافه؟

لكن الذي لا مطعن فيه قديما ولا حديثا هو أن الرافعي ملك قلما دفاقا كأمواج النيل، قوي الشكيمة كدرة جده عمر بن الخطاب، هائما منسابا كأفئدة العشاق، محلقا كأجنة الخيال في محاريب وحي القلم.

الرافعي لم يترك كتابا يقع بين يديه إلا ويقرأه ما جعله بحرا من العلم

حفظ كتاب الله.. ملامح النشأة العلمية

ولد مصطفى صادق الرافعي فاتح يناير/كانون الثاني 1880 في قرية بهتيم بمحافظة القليوبية بمصر، لأسرة ضاربة الجذور في عمق الحضارة والقيم الإسلامية، فقد كان والده صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية في مصر، وعمل قاضيا شرعيا ورئيسا للعديد من محاكم مصر، وكان ذا مكتبة واسعة جدا مثلت لابنه مصطفى المنهل الأول الذي نهل منه وهو يحوم خلال حياض الحضارة.

أما أجداده فقد كانوا أعلام تصوف وعلم ورواد فكر، وقد كان لهذه الأسرة العمرية سمت خاص في تربية وتكوين أبنائها، حيث يكون القرآن الكريم منهلهم العذب الأول، ومن حلقاته ومدارجه يؤسسون ثقافة متينة العضد متأسسة على ثقافة إسلامية واسعة، وعلى حس بياني وبلاغي عميق.

حفظ الرافعي القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة انتقل إلى المدرسة الابتدائية، في مدينة دمنهور قبل أن ينتقل منها إلى المدرسة الابتدائية في المنصورة، وذلك بعد أن انتقل والده الموظف العدلي إلى هنالك، ومنها تخرج بالشهادة الابتدائية التي كانت يومها بحجم معارفها وطرق تدريسها تناهز اليوم أو تفوق مستويات طلاب الكليات المتخصصة في الجامعات.

مقالة “شعراء العصر” صنف فيها الرافعي شعراء عصره إلى طبقتين ووضع نفسه في آخر الطبقة الأولى

حجاب الصمم والعزلة.. رحلة المرض والإبداع

بعد حصول الرافعي على الشهادة الابتدائية وهو في ربيعه السابع عشر، أصيب بمرض عضال أثر على سمعه وعلى نطقه، فاستعاض من سماع أصوات الناس ووهج أحاديثهم، بأن يسمعهم صوت قلمه وهو يعيد رسم ملامح الحياة، ويشكل من الحروف الناضرة حياة وأسواقا ومحاريب وضجيجا وحبا وثقافة واسعة.

كان الرافعي في استناده إلى قلم يملأ الآفاق صداحا مشرقا يشبه المتنبي وهو يمسح جفون التاريخ ويقرأ على سمعه:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم

كان الرافعي يكتب للعالم “إن كان النّاس يعجزهم أن يُسمِعوني فليسمعوا منّي”، وقد رافقه الصمم حتى ناهز الثلاثين من عمره، فبدأ في علاجه واستعاد شيئا من ضجيج الحياة الذي كان بينه وإياه حجاب الصمم والعزلة الثقافية التي فرضها الرجل على نفسه مستقيا من المكتبة الضخمة التي جمعها والده.

كانت الهمة والعزيمة والجهد الذاتي أبرز جامعة وأهم أستاذ في حياة الرافعي، ومن صفحات الكتب والنقل المباشر منها، ومن ذلك المنهل المفعم برائحة المداد وسجالات المؤلفين واخضلال المعارف وصراع الأقلام، حصل الرافعي علما وافرا وملكة أدبية واسعة.

مقالة شعراء العصر أثارت حفيظة كبار الشعراء والأدباء فردوا عليه بعبارات قاسية

هيبة القاضي وظرف الأديب.. إرث عائلي

إذا كان الرافعي الأديب معروفا لدى الناس مشهورا براقا كالسحاب الأحمر، فإن الرافعي القاضي لا يقل مهارة ولا حنكة وثراء معرفيا عن سابقه، فقد كان أحد شيوخ التحكيم والاستشارة القضائية الذين ترد إليهم المعارف والإشكالات من داخل ومصرها وخارجها، وتصدر المحاكم عن رأيهم ومواقفهم.

عمل الرافعي كاتبا عدليا في محكمة طلخا الشرعية سنة 1899، وكان يتقاضى يومها أربع جنيهات لا أكثر، ولم تكن الوظيفة العدلية هدفا لديه بقدر ما كانت استمرارا لإرث أسرته التي توارث عدد من رموزها مناصب القضاء والإفتاء والإمامة الشرعية في أرض الكنانة وخارجها.

كانت الجنيهات الأربع مصدر رزق بسيط لشاب أعزب، لكنها أيضا كانت قوتا لأسواق الكتب، فقد كان الرافعي عاشقا للكتاب محبا للقراءة يستزيد كل يوم من المعارف، وكان رفيقه في كل ذلك الكتاب، فهو سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي يملي به درر الإبداع وحْيا على قلم مدرار.

انتقل الرافعي بعد محكمة طلخا إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ومنها إلى محكمة طنطا الأهلية، وكان في ذلك يجمع بين وقار القاضي وبين رهافة حس الأديب، فتفرض عليه المحكمة وقضايا الشاكين وأزمات المتخاصمين حالة من الوقار وسَوْرة من التجهم، لكن سرعان ما يزيحها أريج الأدب وأشواق العشاق وترانيم الحروف المتعاقبة في مداد الرافعي، مثل رحلة الحياة في أرصفة وشوارع وحارات الكنانة.

وبالإضافة إلى اهتماماته وانشغالاته الأدبية فقد واصل الرافعي في عمله القضائي طيلة عمره الوظيفي، وكان مرجعا أساسيا وذاكرة مهمة للقضاء المصري، وقد انتشرت سمعته وخبرته العدلية بين أصحاب ورموز هذا الاختصاص، فأصبح بمنزلة المستشار لوزارة العدل، ولنظرائه في المحاكم الشرعية في مدن مصر المختلفة ومن خارجها.

علاقة حب خفية نشأت بين الرافعي ومي زيادة كانت نتائجها مجموعة كتب حب أهمها أوراق الورد

فيلسوف الحب.. قلم الزوج العاشق

في الرابعة والعشرين من عمره انتقل الرافعي إلى عش الزوجية، لكن هذا الطائر الذي دخل العش الذهبي ظل مسكونا بحب عارم للجمال، وعلى ضفاف الحرف التقى الرافعي بزوجته التي تنتمي إلى بيت عريق من بيوتات الأدب في مصر، فقد كانت زوجة الرافعي شقيقة للأديب المصري الكبير عبد الرحمن البرقوقي، وقد أنجبت عائلة البرقوقي أسماء لامعة في الأدب والثقافة الإسلامية في مصر.

عاش الرافعي في ظلال بيت متناغم ومتكامل، يجد في زوجته نبع الجمال والحب الذي عاش من أجله، كما تجد فيه قلما دفاقا يروى ظمأها إلى الأدب وأشواقها إلى وهج الحروف العطرة، والغواني منذ قديم الزمان يأسرهن الحرف الجامح والكلمة الشادية والغزل العذب.

استمر هذا الزواج ثلاثا وثلاثين سنة، حتى غادر الرافعي الحياة وهو في السابعة والخمسين من عمره، تاركا وراءه ذكرى حب عطرة، ويذكر أصدقاؤه وخلصه أنه كان دائم الثناء على زوجته ولم يرفع لصديق منها شكوى، فقد تآلفا تحت ترانيم وحي القلم.

في ظلال الأسرة السعيدة، أنجز الرافعي كتبه الرائعة في فلسفة الحب، وتعكس مراسلات بينه وبين ضفاف الحب الأخرى، ومن بين تلك الكتب “رسائل الحب” و”السحاب الأحمر” و”أوراق الورد”. ومن تحت أستار ذلك الحب الظليل، كتب الرافعي “حديث القمر”، وأعاد تعريف الحب بأساليب تجمع بين الطرافة والعمق، وبين المباشرة والتأمل الفلسفي، وبين ضجر المحروم ورهبة المشتاق.

كان إذا اشتدت عليه قسوة الزمان ولهب الأشواق، عرف الحب بأنه “لفظ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركان وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحا”، وإذا ماست به مائسة من شوق وأمل من وصال رأى في الحب “امتزاج نفسين بكل ما فيهما من الحقائق، حتى قال بعضهم: “لا يصلحُ الحبُّ بين اثنين إلا إذا أمكنَ لأحدِهما أن يقول للآخر: يا أنا”.

فبأي آلاء الحب يحكم القاضي العاشق، وإلى أي ضفتيه يميل، يضج مرة أخرى صوت المتنبي في أعماق الأديب الأصم وهو يردد:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقى

والحب عند الرافعي لا ينفك عن الجمال، فهما صنوان متكاملان وروح حلت جسدين أو هما في اللفظ والمعنى على سواء من الترادف والتكامل.

ويختص كتاب “رسائل الأحزان” من بين كتب الحب الرافعية، بأنه كان وهج تجربة شامية، قادته إلى لبنان وكتبه بعد عودته منها سنة 1912، حيث التقى بالأديبة الذائعة الصيت مي زيادة، ويؤكد بعض نقاد الرافعي والمهتمين بكتبه بأن مراسلاته مع مي زيادة لم تكن مجرد أحاديث فوق ضفاف الأدب، بقدر ما كانت تجربة عشق وإن من طرف واحد.

الأدباء والشعراء يجمعون على أن “وحي القلم” هو خلاصة الخلاصة في أدب الرافعي

“وحي القلم”.. شيخ كتب الرافعي

لم يشتهر من كتب الرافعي كتاب مثلما اشتهر “وحي القلم”، فقد سار هذا الوحي مسار الخشوع في صلوات رهبان الحروف، وقد صدرت الطبعة الأولى منه في حياة مؤلفه، ثم أعيدت طباعته مرات عددا.

يحمل الكتاب في طياته عصارة فكر وثقافة الرجل، كما يشمل أيضا أنماطا متعددة من القدرات الفنية والأسلوبية للكاتب، فهو جامع بين الخطابة والتاريخ والمقالة، والقصة وغيرها من أنماط السرد الأدبي التي توسعت بعد ذلك ومهدت للأدب النثري وفتحت له الطريق سالكة إلى الإبداع والعالمية.

ويقول تلميذ الرافعي وناشر تراثه محمد سعيد العريان أن من أهم ما يميز وحي القلم هو جمال البيان ووضوح الأساليب، ويؤكد العريان أنّ من يقرأ هذا الكتاب يعلم أنّه أكثر كتب الرّافعي التي تحوي الأسلوب الفنيّ الرّاقي، وأنّه كتاب واضح بشكل كبير.

بدأت رحلة الرافعي مع “وحي القلم” من خلال مقالات وقصص منوعة كان يكتبها لمجلة الرسالة الذائعة الصيت التي أسسها الأديب أحمد حسن الزيات، ثم صدر جزآن من الكتاب في حياة مؤلفه، قبل أن يصدر الجزء الثالث بعد رحيله عن الدنيا.

ويمكن اعتبار “وحي القلم” واحدا من أكثر الكتب التي لاقت رواجا منقطع النظير منذ صدوره، قبل أكثر من ثمانين سنة، ولا يزال رفيقا أساسيا للأدباء ومحبي اللغة العربية، ولنقاد ودارسي الأدب الحديث والمعاصر.

وفي مقدمة “وحي القلم” يأخذ الرافعي بازدراء شديد على الأجيال التي عايشها ضعف الاهتمام بكتابة تاريخ الأدب، وضعف الملكة الكتابية وانهيار أسقف الإبداع البياني في نثر العرب المعاصرين، ويرى أن ما يكتبه المعاصرون عن تاريخ الأدب العربي أشبه ما يكون بشواهد القبور حيث لا يضيف علما ولا يكشف عن كنوز التراث.

ورغم ما أودع الرجل في كتابه من تاريخ وعمق تحليلي وقراءة واعية للتراث العربي بمختلف مجالاته الثقافية والأدبية والدينية، فإنه كان بالنسبة له أقل من المرغوب ودون ما كان يروم، إذ يقول “لا أقول إنّي أتيت منه على آخر الإرادة، ولا أعزم أنّي أوفيتُ الإفادة”.

لكن “وحي القلم” على شهرته لم يكن الكتاب الوحيد الذي خلده مداد الرافعي، فقد ترك مكتبة شاملة وواسعة، ومنها على سبيل المثال كتاب تاريخ آداب العرب الذي يعتبر من أهم وأشهر كتب الرافعي، وقد خصص الرافعي الجزء الثاني منه للنص القرآني المقدس الذي عاش في ظلاله واستقى من ينبوعه أسلوبه ووهجه اللغوي البراق، فأصدر سنة 1928 كتابه “إعجاز القرآن والبلاغة النبوية”.

كتاب “على السفود” سجل أهم مساجلات الرافعي مع الأديب عباس محمود العقاد

محامي الضاد.. إمام من أئمة الأدب العربي

خاض الرفاعي سجالات أدبية دفاعا عن كرامة الأدب العربي، وتصدى بقوة للمدرسة الرومانسية المعاصرة وخطها الأدبي، حيث كتب مقالاته التي صدرت بعد ذلك في كتاب بعنوان “على السفود”، الكتاب الذي جاء ضمن مساجلاته مع الأديب عباس محمود العقاد الذي خاض معه إحدى أشرس معاركه الثقافية والأدبية.

وقد نشرت تلك المقالات أول ما برزت إلى القراء عبر صفحات مجلة العصور للأديب إسماعيل مظهر، وكانت المجلة توقّع تلك المقالات باسم إمام من أئمة الأدب العربي.

لقد تحول الرافعي مع الزمن إلى محامٍ بارز للأدب العربي يدافع عنه ويربي الناشئة ويأخذ بأيدي المتأدبين إلى ضاحية الأدب العربي، مقدما لهم برنامج التأهيل الأدبي الذي لا بد أن يتأسس على منصة راسخة من الثقافة العربية الأصيلة حفظا للمفردات والمعاني وقراءة واعية في مختلف كتب التراث العربي حتى تتأسس ملَكة عربية قوية تجمع بين مخزون الثقافة والاعتزاز بالحضارة الإسلامية.

ومما يؤثر في دفاعه عن لغة القرآن قوله عن نفسه “إنّه يُخيل إليّ دائما أنّي رسول لغوي بُعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدا في موقف الجيش تحت السلاح”.

الرافعي صنّلإ القرآن الكريم أحد أعمدة اللغة العربية الثلاثة بجانب الشعر والخطابة

خاتمة مع القرآن.. انطفاء المشعل الحضاري

وكما بدأ الرافعي حياته مع القرآن الكريم، فقد ختمها أيضا معه، حيث كان القرآن الكريم آخر عهد له بالقراءة التي هي شغفه الأول والأخير، كما كان آخر عهد له أيضا بالحياة التي عاش فيها مسافرا على أجنحة الإبداع، أو متبتلا تحت ظلال وحي القلم.

كان الرافعي جالسا يقرأ من مصحفه، قبل أن تُنهضه حرقة معدة، فقام وهو يواصل قراءة الذكر الحكيم، ثم ما لبث أن سقط أرضا بعد أن عاجلته نوبة قاضية أطفأت ذلك المشعل الحضاري العظيم، وأغمدت قلمه الدفّاق الذي عاش عمرا لم يكن طويلا، بقدر ما كان عريضا وعميق التأثير في تاريخ الأدب العربي المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi