لواء الحق لا يزال شامخًا/ بقلم الشيخ أسامة السيد/الشراع

الشراع 8 حزيران 2023

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

أما بعد فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم:{قولوا ءامنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم لا نُفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمونسورة البقرة.

وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما بُعثت بالحنيفية السمحة” رواه الطبراني، ومعناه بالشريعة السمحاء أي الدين السهل.

إن ديننا الحنيف هو الرحمة التي أرشد الله تعالى إليها لتُتَّبع ويُستضاء بنورها في الظلمات التي تَدْلهمّ في حياة الناس ويُستدل بتعاليمها على الطريق القويم عند اختلاف الدروب، ويُستهدى بسماحتها إذا تضاربت الأهواء، وقد حمل الأنبياء الكرام عليهم السلام شرائع الدين فبلَّغوها للناس فأدوا بذلك الأمانة ونصحوا الأمة واعتصموا بحبل الله المتين الذي يُوصل إلى مرضاة رب العالمين، ثم إن الشريعة الغراء هي العروة الوثقى والسراج المنير والمنهج الرشيد قال الله تعالى:{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} سورة البقرة. والطاغوت الشيطان، وقيل: الذين يدعون الناس إلى عبادة غير الله، فمن كذَّبهم فيما يدعون إليه وآمن بالله وصدَّق الأنبياء الكرام الذين دعوا إلى توحيده تعالى وطاعته فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومعنى استمسك أي تمسك، والعروة في اللغة هي ما يعلق به الشىء كالعقدة في الحبل أو أذن الكوب ونحو ذلك، والوثقى تأنيث الأوثق أي الأشد والأحكم. والمراد بالعروة الوثقى في الآية العقد الوثيق المحكم في الدين الذي لا تنقضه شُبهةُ الضالين ولا أراجيف المبطلين.

أهل الحق

ثم إن خير من التزم تعاليم النبي الأكرم سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة هم السلف الصالح الذين صلَح أمرهم بالاتباع لهدي القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهم الصحابة الأبرار وأتباعهم بإحسان وأتباع التابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى الذين شملهم مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمران بن الحصين: “خير الناس قَرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” أي أهل القرون الثلاثة الأولى، والقرن هو مائة عام، ولكن الخير لم ينقطع بعدهم بل هو محفوظ بحفظ الله تعالى. أخرج أبو نُعيمٍ في “الحلية” عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: “لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لئلا تبطل حججُ الله وبيناتُه أولئك هم الأقلون عددًا الأعظمون عند الله قدرًا” والمراد أن الأرض لا تخلو ممن يُبين الحق بالدليل والبرهان ويرشد الناس إليه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”. قال النووي في “شرح صحيح مسلم “ويحتمل أن هذه الطائفة مفرَّقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم مُحدّثون ومنهم زهَّادٌ وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض، وفي هذا الحديث معجزةٌ ظاهرة فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث”. ومعنى لا يضرهم من خذلهم أي ترك معاونتهم، وقوله حتى يأتي أمر الله أي حتى تأتي الساعة.

وإن الناظر في تاريخ أمتنا المجيد منذ فجر الدعوة المحمدية إلى يومنا هذا يرى أن لواء الحق الذي رفعه الصحابة الكرام وأهل البيت الأطهار ما زال شامخًا ترفعه الأيدي الطاهرة جيلًا بعد جيل، فقد حمله خلفُ الخير بعد السلف الصالح فنشروا الأحكام ودافعوا عن حياض الدين مجتهدين ومحدثين وفقهاء وحفاظًا وصوفية، وكان من عظيم لطف الله تعالى وعنايته بهذه الأمة أن قيض لها إمامين جليلين، هما أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة 324 ه وكان شافعيًا وأبو منصورٍ محمد بن محمدٍ الماتريدي المتوفى سنة 333 ه وكان حنفيًا،قاما بنصرة عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ بعدما كانت المعتزلة وغيرها من الفرق المنحرفة عن جادة الصواب قد أثرت في الناس تأثيرًا كبيرًا، فكان لهذين الإمامين أثرٌ عظيم في إيضاح العقيدة الحقَّة عقيدة الأنبياء والصحابة وأهل البيت بالأدلة والبراهين، ثم سار على طريقتهما بعد ذلك خلق كثير من أئمة المحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين واللغويين والقادة والسلاطين حتى قيل لكل من التزم عقيدة السلف الصالح بعد ذلك:أشاعرة وماتريدية، واستمر خلفُ الخير يُدافعون عن الدين وينصرون عقائد الحق وينشرون أحكامه.

وهذا كله من عظيم لطف الله تعالى بهذه الأمة حيث قيض لها أئمة تبين الحقائق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فحُفظ بذلك الدين، ولا يزال الدين محفوظًا رغم شذوذ من شذَّ وانحراف من انحرف، فبالرغم من تغير الزمان وانتشار الفساد أكثر فأكثر وتوالي الفتن كقطع الليل المظلم ما زال في الأمة ولله الحمد من يهتم لعلوم الشريعة ومن هو متضلّعٌ في علوم القرآن والحديث والفقه، وكلهم ملتمسٌ من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وله بعلمه سند إلى أصحاب رسول الله إلى سيد السادات نبينا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، وعلمهم مبنيٌ على أساس متين وقائمٌ على القواعد التي ثبَّتها المجتهدون من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، وهؤلاء يقتبسون من فيوضات الزهد المحمدية والأخلاق النبوية والآداب الشرعية خلافًا لكثيرٍ من الجماعات التي تقوم على اجتهاداتٍ وآراءٍ خاصة مستحدثة تُنافي في حقيقة الأمر أصول الدين وتُناقض البراهين التي دلت على الصواب وأجمعت عليها الأمة منذ قرونٍ وقرون. وبسبب تشتت أفكار كثير من الناس وانجرافهم مع التيارات الفاسدة والأهواء الكاسدة وتقلُّبهم بين هذه الجماعة وتلك أضاعوا البوصلة، فخلطوا بين الصحيح والباطل وبين الصواب والغلط فظنوا السراب ماءً  وهلكوا من حيث ظنوا أنهم نجوا.

ومن هنا فإننا ندعو إلى الاتباع وترك الابتداع فإن الحق أحق أن يُتَّبع وقد بيَّن الأئمة الأوائل جواهر الهدى فمن استضاء بها فاز ومن أهملها هلك.

والحمد لله أولًا وآخرًا.

مجلة الشراع