الشراع 17 شباط 2022

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يريد اللهُ بكم اليسرَ ولا يريد بكم العسر} سورة البقرة.
وعن أبي سَلَمَة قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أصوم الدهر (يصوم أيامًا متتابعة كثيرة) وأقرأ القرآن كل ليلة قال: فإِمَّا ذُكرت للنبي صلى الله عليه وسلم وإِمَّا أَرْسَل إليَّ فأتيتُه فقال لي: ألم أُخبر أنك تصُوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة (أي تختم ما كان نزل من القرآن حينئذٍ). فقلتُ: بلى يا نبي الله ولم أرد بذلك إلا الخير. قال: فإنَّ بِحَسْبك (يكفيك) أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيَّام. قلت: يا نبي الله إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: فإن لزوجك (زوجتك) عليك حقًا وإن لِزَوْرِك (ضيفك) ولجسدك عليك حقًا (وحق الجسد أن يترك فيه من القوة ما يحتاج إليها) فصُم صومَ داود نبي الله فإنه كان أعبدَ الناس (أي من أعبدهم). قال: قلتُ يا نبي الله وما صوم داود؟ قال: كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا. قال: واقرأ القرآنَ في كل شهر. قال: قلتُ: يا نبي الله إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في كل عشرين. قال: قلتُ: يا نبي الله إني أُطيق أفضل من ذلك: قال: فاقرأه في كل عشر. قال: قلتُ: يا نبي الله إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في كل سبعٍ ولا تَزد على ذلك فإن لزوجك عليك حقًا (كتأمين النفقة وأن يترك في نفسه قوةً لقضاء حاجة الزوجة منه) ولِزَوْرك عليك حقًا ولجسدك عليك حقًا. قال: فشَدَّدت (أي على نفسي في عدم قَبُول الرخصة) فشُدِّد علي (شقَّ عليه ذلك حين كبُر). قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمرٌ. قال: فصِرتُ إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم فلما كَبِرتُ وددتُ أني كنت قبلتُ رخصةَ نبي الله صلى الله عليه وسلم. (معناه كبُر وعجز عن المحافظة عمَّا التزمه وشقَّ عليه فودَّ لو قبل الرخصة)” رواه مسلم.

أحبُّ العملِ لله
قد يظن كثيرٌ من الناس أن الالتزام بالدين يعني أن تُهمل أمر والديك وزوجتك وأولادك وسائر أقاربك وأن تكون فوق ذلك كله غير مهتمٍ لشىءٍ من أمور الدنيا فتعيش في عزلةٍ كأنك غريبٌ عن الناس، وهذه صورة مظلمة رسمها إبليس في نفوس الجهلة الذين يحكمون على ديننا الحنيف بما ليس من الدين في شىء. ولهؤلاء نقول:
إن الإسلام دينٌ عظيم يُعنى بشؤون الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم العامَّة فمن أراد أن يتعبَّد فحريٌ به أن يتعبَّد ربه على وفق الشرع، ومن أراد أن يشتغل بالسياسة أو التجارة أو الصناعة أو غير ذلك فجديرٌ به أن يُراعي الشريعة أيضًا ليجد النجاح في حياته. ثم إن المؤمن الكامل يُخالط الناسَ ويهتم لأمورهم ويكون نفَّاعًا حيثما حلَّ وهو عارفٌ بحقوق الله وحقوق العباد فيُعطي كل ذي حقٍ حقه ولا يُهمل ما لزم عليه في نفسه وأهله بدعوى التَّعبُد والتَّقرُّب إلى الله فإن الالتزام بالشريعة لا يعني أن تُحمِّل نفسك ما لا تُطيق ولا أن تترك التكسُّب للنفقة على عيالك.
ثم إنه لا يشك كل منصفٍ أن الله تعالى لم يجعل في الدين حرجًا بل هو يسرٌ ولم يكلِّف العباد بما ليس في وُسعهم، ومعنى الإرادة في قوله تعالى:{يريد الله بكم اليسر} المحبة أي يحب الله لكم اليسر ولا يحب لكم العسر، ولكن قد يُشدِّد بعض الناس على أنفسهم جهلًا منهم بحقائق الأمور فيتعرَّض أحدهم لما لا يستطيع وقد قال ربنا تعالى في سورة البقرة:{لا يُكلِّف اللهُ نفسًا إلا وُسعها} أو قد يتشدد البعض في أمر العبادة بحيث ينصرف عن كثيرٍ من الأمور المهمة والتي منها ما يكون واجبًا عليه فيظن أنه يُبالغ في طاعة الله بينما هو عاصٍ لله وهو لا يشعر فيكون كمن هدم مصرًا وبنى قصرًا. وقد أخرج الترمذي عن أبي صالحٍ قال: سألتُ عائشةَ وأم سلمة: أي العمل كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالتا: “ما ديم عليه وإن قلَّ” أي ما واظب عليه صاحبُه وإن كان قليلًا، وإنما كان العملُ على هذا النحو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أحب إلى الله عزَّ وجلَّ وما كان إلى الله أحب كان إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أحب، وأكبر الأعمال الصالحة ثوابًا أدومها.
قال الحافظ ابن حجرٍ في “الفتح”: “قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاقِّ حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة” ومعنى “المراقبة لله” استحضار أن الله يراك أينما كنتَ فيحملك هذا على الخوف منه فتجتنب الحرام، والمراد بالإقبال على الله الإقبال على طاعته فالزم ما تُطيق ودُم عليه فإن الله يُضاعف الأجر ولا تُجهد نفسك فتضعف وتكسل بعد حينٍ وتندم حين لا تُسعفك صحتُك ولا ينشط بدنك، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ولن يُشادَّ الدِّين إلا غَلبه” والمعنى لا يتعمَّق أحدٌ في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه. وروى البخاري أيضًا “أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدَّرداء له طعامًا وقال: كُلْ فإني صائم. قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم (ليصلي بالليل) فقال سلمان: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال له: نَمْ فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصلَّيَا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا (أي من العبادة) وإن لنفسك عليك حقًا (أي من الغذاء والنوم الذي تقوم به الأبدان) ولأهلك (زوجك) عليك حقًا فأعط كل ذي حقٍ حقه فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدَق سلمان.
والحمد لله أولًا وآخرًا