الى جان عبيد… وعنه

البلد حزين. شوارع فارغة. بلا أضواء. والحزن أيضاً على الوجوه. بالكاد تلمح وجهاً مبتسماً في نهارك. والحزن على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي كانت وسيلة تسلية ومعرفة، وأحياناً مساحة للتافهين من أنصار الأحزاب والزعماء يتقاتلون بلا هوادة، وأصبحت صفحة وفيّات.

وفي الأمس، كان حزنٌ مزدوج على ما بلغته صحة النائب جان عبيد، نتيجة إصابته بالفيروس اللعين.
وكان تمدّد الفيروس حرمنا، منذ مدّة، مجالسة رئيس الحكمة في المجلس النيابي. هو الأنيق في المظهر والكلمة، الظريف حين يروي، والنزيه في ممارسة العمل السياسي، والخادم من دون تبجّح. يحترم الآخرين بمقدار احترامه لذاته، لا يأخذه الربح ولا تهدّه الخسارة.
ولعلّ بعض ما في طباع وقناعات جان عبيد ما ألحق ظلماً به. هو يكره الصخب والزعيق. لا يهرول الى الإعلام، ولا يتسلّق المنابر. بياناته، مذ انتخب نائباً في العام ٢٠١٨، محدودة كمّاً ومضموناً. بعض أسطر، فيها ما قلّ ودلّ. ولغةٌ جذّابة في زمن بيانات السفاهة والافتراء والشتائم. وحين يمضي كبيرٌ يودّعه بما يستحقّ من كلماتٍ منمّقة.

هو المسيحي الماروني الذي يعرف عن الإسلام ونبيّهم أكثر من معظم المسلمين. حين يمدح الآخرين يرفعهم إليه، ولم يهجِ أحداً خشية أنّ ينزل إليه. ويملك نظرةً الى الرجال والأحداث لا تخطئ، وحدساً سياسيّاً وإنسانيّاً عميقاً، وبراعةً في إيصال الرسالة فلا يجرح إن انتقد ولا يبالغ إن مدح.
اللعنة على هذا الفيروس، الذي لم يوفّر الرجل المتنبّه دائماً الى صحته، والى ما يأكل ومتى، وما يشرب وكيف.
اللعنة عليه يرغم الأطبّاء على تنويم قامة مثل جان عبيد لتسهيل العلاج الذي ظلّ يرفضه مقتنعاً بأنّه بخير، ومكانه الطبيعي في المنزل، الى جانب زوجته وجَمعة الأولاد والأحفاد، لا في المستشفى.

وسيعود جان عبيد الى البيت وعجقته. سيعود الى محبّيه، وما أكثرهم، هو الذي جعل ممّا امتلك من معرفة وخبرة وثقافة مرجعيّةً لا رتبة. وكان صاحب فخامة، عن استحقاق كفاءة، وإن لم ينل اللقب بأصوات الكتل وإرادة الدول.
وسنلتقي من جديد حول مائدة الأحد الشهيّة. وسنصغي الى أخباره عن كبارٍ عاصرهم. وسنخوض حديثاً يبدأ بآية من الإنجيل وينتهي بآيةٍ من القرآن، وما بينهما حكمة حبكها أبو الطيب المتنبي، صديقه، في قصيدة.
وستودّعنا يا أستاذ جان عند الباب، آملاً بألا نطيل الغياب.
هذه المرّة نحن من يرجوك. لا تطل الغياب.