الجريدة الرسمية

طرابلس من “قندهار لبنان” الى “عروس الثورة”: تحولات الدور والوظيفة

طرابلس من “قندهار لبنان” الى “عروس الثورة”: تحولات الدور والوظيفة

الجريدة – لبنان
عبد الرحمن السيّد

لا يمكن لأحد ان يلغي الوقائع التاريخية، ربما يجيّرها لمصالحه خدمة لاهدافه، فينقص منها ما يعيبه، ويبهّر ما يرفعه، الا انه اطلاقا لا يمتلك المقدرة على القفز فوق هذه الوقائع خاصة اذا كانت ممهورة برضى الافرقاء المختلفين، الذين يتفقون على الواقعة ويختلفون على تفسيرها.
انطلاقا من هنا لا ينكر منصف الدور الحيوي الفاعل لمدينة طرابلس في الحياة السياسية اللبنانية، منذ تأسيس دولة لبنان حتى يومنا هذا.

كانت رجالات المدينة في طليعة من يتفاعل ويحرك الى حد كبير السياسة الداخلية تحت مظلة الانتداب الفرنسي، حتى وصل الامر بأن رشحت الكتلة الوطنية آنذاك برئاسة اميل اده الشيخ محمد الجسر الطرابلسي لرئاسة الجمهورية اللبنانية.
لم يقف الأمر عن هذا الحد، كان لطرابلس دورها ومساهمتها في تحرير لبنان من الانتداب الفرنسي، تمثل ذلك باعتقال عبد الحميد كرامي في قلعة راشيا مع رفاقه الرئيس بشارة الخوري وعادل عسيران غيرهما…

وبعد الاستقلال، سيما بداية الخمسينيات، دخلت طرابلس الملعب السياسي بداهية رشيد الفكر عروبي التوجه، رشيد كرامي الذي ترأس الحكومة اللبنانية لاكثر من ثماني مرات حتى اغتياله عام 1987، وهو الذي قال له يوما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: “لبنان صغير عليك رشيد أفندي”، في اشارة منه الى عبقرية رشيد كرامي وذكائه وسرعة بديهته.

وفي هذه الحقبة كانت طرابلس فعلياً مركزاً للحكم، وهي الفترة التي تماهت بها مع البعد العربي الذي تمثل بعبد الناصر، والقومية العربية والإنتماء الوجودي والمصيري للعرب الذين جمعتهم نكبة فلسطين. فكانت طرابلس مهداً للكثير من المقاومين العروبيين الذين شاركوا إنتفاضات الفلسطينيين من لبنان إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هذا المد العروبي لطرابلس والحضور السياسي الفاعل لبنانيا، لم يترجم عملانيا على الارض سوى شعبيا، عبر المظاهرات المؤيدة لناصر وفلسطين والمناصرة دائما للقضايا العربية، فلم تشهد المدينة مشاريع انمائية وبنى تحتية تتيح لها ان توازن بين حضورها السياسي ومقومات صمودها، ما جعل دورها يخفت تدريجيا ايام الحرب الاهلية، على جميع المستويات، وصولا الى استشهاد داهيتها رشيد كرامي، الاستشهاد الذي اخرج الفيحاء، بنظر البعض، من معادلة “المدينة الفاعلة” الى معادلة “المدينة الرديفة” خاصة بعد تبلور الحل الدولي للحرب الأهلية برعاية إقليمية-دولية، تجلت بوصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الحكم.

طرابلس بعد الطائف: فقدان الدور والفعالية

في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف غيّبت المدينة عن القرار اللبناني لصالح مركزية قاتلة تمثلت في السلطة التي انتجها الاتفاق الجديد الذي تضمن تعديلات جوهرية في شكل ودور ووظيفة كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهذه المرحلة تحتاج الى قراءة متأنية ودقيقة ليس لان دور المدينة اختفى بها بشكل كلي وحسب، انما لانها شهدت تبدلا عميقا في الدور الوظيفي الذي لعبته طرابلس على مدى السنوات الماضية.

وبعد اغتيال عراب الطائف الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، اتفقت كل الكتل السياسية والاحزاب والتيارات، على ان الدور المطلوب تأديته من المدينة هو تشكليها صندوق بريد سياسي ساخن بين مختلف هذه المكونات، فكانت النتيجة ان شهدت المدينة جولات عديدة من العنف الدامي، عرفت قبلها المنظمات الاسلامية المتشددة (فتح الاسلام)، وخلالها وبعدها شهدت دخول “داعش” الى “امارة طرابلس” التي كان يسعى لاقامتها، والتي لاجلها باتت وسائل الاعلام المحلية والخارجية تعرّف الفيحاء على انها “قندهار لبنان”، وبعد ان اتفق اهل الحكم على ان مدة صلاحية هذا الصندوق- البريد، قد انتهت، اختفت “داعش” من الساحة، وعاد المتقاتلون الى منازلهم والشوارع الى حركتها…والبحث لا زال قائما عن دور جديد تؤديه هذه المدينة المثخنة بالجراح..!

استعراض هذه الحقبات التاريخية الأليمة، ليس الهدف منه استعادة المعزوفة القديمة التي تقول: “طرابلس ترحب بأشقائها في دولة لبنان وتدعوا الدولة اللبنانية الى مزيد من التنسيق والتعاون”، في اشارة الى الاهمال المتمادي لطرابلس من قبل الدولة طيلة تلك الحقبات، انما الهدف هو فهم الخلفية التي أتت من رحمها حقبة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، التاريخ الذي اندلعت فيه شرارة إنتفاضة اللبنانيين على صعيد الوطن، في وجه الفساد والطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة تحت عنوان “كلن يعني كلن”، حيث خرجت المظاهرات الإحتجاجية العفوية في كل المناطق اللبنانية، وكانت المحطة الأهم، في طرابلس.

في 17 تشرين، تهافت الطرابلسيون للنزول إلى ساحة عبد الحميد كرامي في وسط المدينة للمشاركة في “الثورة”. شارك الرجال والنساء والشباب والأطفال في رسم صورة جديدة عن المدينة، وتحول هذا السيل العارم من الطرابلسيين لما يشبه إحتفالية ضخمة على وقع الأغاني الثورية والهتافات المطالبة بإسقاط الحكومة وإسقاط النظام.

تناسى اللبنانيون لوهلة إنتفاضتهم، وتسارعوا للسؤال، من هؤلاء؟ هل هم من اتهمناهم زوراً بالدواعش؟ هل هؤلاء من كنا نظنهم يريدون ولاية إسلامية؟

وكأن المدينة ولدت من جديد وكبرت وصارت عروسا لثورة تأخرت كثيرا، ثورة أعادت الفيحاء إلى حضن الوطن، وأكدت على إندماجها في خريطة الـ ١٠٤٥٢ كلم مساحة لبنان، وقلبت المعادلة: “قندهار لبنان” أصبحت “عروس الثورة اللبنانية”.
لقد إستطاعت المدينة، إزاحة هذه الصورة النمطية الخاطئة التي رسمها لها الإعلام على مدى سنوات، عبر نفس الإعلام. ما يدفعنا للسؤال: هل من المنطقي أن القنوات اللبنانية التي فتحت هواءها لكل من يريد تشويه طرابلس عبر السنوات، تتيح الهواء نفسه لمن يظهر العكس اليوم؟ لماذا؟ وما الهدف؟ وما الضريبة التي قد تدفع من جديد؟

الأكيد، أن طرابلس هي نفسها، بأهلها وأخلاقها، لم تتغير، بل هم من تغيروا، هم من كذبوا سابقاً، و هم من يسعى اليوم لغسل كذبته بماء طرابلسي طاهر، لا يعرف الا الوفاء لمن يحتك به، وهذا ما بدا جليا من خلال الصداقات التي كوّنها مراسلي هذه القنوات مع الناس في الساحة.

ما تحتاجه المدينة اليوم، في ظل سعي البعض الى “تجميد” مفعول ثورة 17 تشرين في طرابلس، السعي الدائم لتظهير صورة المدينة الحقيقية، خاصة بعد إنسحاب القنوات التلفزيونية من التغطية المباشرة، وتأدية المدينة الدور الذي رُسم لها منذ بداية الثورة، وفقا للبعض،: “طرابلس ستحشد، طرابلس ستعطي دفعاً معنوياً لإستكمال الثورة، على أن يبقى مركز الحراك في بيروت، وعلى أساس أن لا تأخذ طرابلس الدور الأبرز في مرحلة ما بعد الثورة”.

فهل هذا ما نريده؟ نتجه نحو مزيد من التخلي عن الدور التاريخي لطرابلس؟ أم سيكون لأهل الثورة وشبابها كلام آخر؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi