د. زياد علوش/ دراويش «غزة» والنظام العالمي نهاية «الرأسمالية المتوحشة» وبداية العالم الحر
الأساس الفلسفي والبناء النظري اساس صناعة الواقع الميداني وجوهره، فالواقع الاشكالي المثار هو الإسقاطات الحضارية الثلاثة: الثقافة على السياسة والسياسة على الواقع الذي يصبح انعكاسا لها.
مع اطروحة جنوب افريقيا في اروقة المحكمة الجنائية الدولية في «لاهاي» وهي التي ذاقت مرارة الفصل العنصري على ايدي الاقلية الانكلوساكسونية في «كيب تاون» وقد عرت العنصرية الصهيونية في غزة وعموم فلسطين حتى من ورقة التوت التي تستر بها عورة جرائمها ومجازرها.
يبدو ان ما تصنعه الاحداث في «غزة» منذ بداية عملية «طوفان الاقصى» يتخطى «القطاع» بمساحته 365كلم2 وكثافته السكانية (2،5) مليون نسمه، الى حيث تبلغ مشهدية الصورة المتناقلة تحت اشعة الشمس العالمية، التي تنير الوعي الانساني وفق ملحمة متكاملة العناصر، تحتوي انواعا من المجازر والقهر المطلق السادية بما ترتكبه طليعة الديمقراطية اسرائيل في شرق البرابرة وما يبديه الفلسطينيون شعباً ومقاومة وإعلاما من مآثر إنسانية غير مسبوقة في كل الاتجاهات.
في الذكرى الستين لارتقاء الملكة فكتوريا عرش بريطانيا في حزيران/يونيو 1897؛ كان ربع سكان الأرض يرقبون الحدث الماسي، وصفه المؤرخ الأشهر ارنولد توينبي قبل أن يطاله التاريخ قائلاً: (نحن هنا فوق قمة العالم) فهل يطال نفس التاريخ امريكا وربيبتها اسرائيل؟ توجد اصداء معاصرة؛ الاسراف التوسعي الاستعماري مشابه والمأزق الإستراتيجي المشترك والتفرد القطبي بإدارة العالم، رغم التباينات الجوهرية، فالتحدي الانكليزي التاريخي اقتصادي؛ رغم الاختيارات الاستراتيجية الصائبة والدبلوماسية الراقية، كان موقعها كقوة – ديناميتها الاقتصادية والتكنولوجية يتآكل، فيما الأمريكي سياسي على الرغم من تعافي الاقتصاد بأزمته الحالية وحيوية المجتمع بعد سنتين من الاحتفال الماسي وبعيد حربها مع الدراويش في (ام درمان) 48000 ألف درويش بين قتيل وجريح بخمس ساعات مقابل 48 جنديا! دخلت بريطانيا حرب البوير لحظة بداية انهيارها، واليوم لا تزال امريكا بعد العراق وافغانستان منخرطة مع تل ابيب بارتكاب المجازر والقتال مع دراويش «غزة».
على رأي بعض المؤرخين؛ كان يمكن لبريطانيا تجنب سقوطها بتجنب حرب البوير، فهل ينطبق ذلك على امريكا عبر حروبها الدينكوشوتية؟ احتفظت بريطانيا بتفردها لعقود، رغم سقوطها الاقتصادي بفضل استراتيجية واضحة ودبلوماسية جيدة، بداية عصر تحول القوى، والقوة اختارت التأقلم مع صعود امريكا بدل منافستها، وبعيد عام 1880 استسلمت لندن لواشنطن تحت عنوان تفضيل الاسترضاء والتهدئة والأماني الطيبة، بدلا من المواجهة مع القوى الفاشية، توجه بلير مع امريكا في العراق وافغانستان، كما توجه الآن معها في غزة «ريتشي سوناك» وآخر مسمار في نعشها الاقتصادي الامبراطوري كانت الحرب العالمية الثانية التي مولتها امريكا مادياً والاتحاد السوفيتي بشرياً، الا ان الداهية تشرشل على الرغم من الثنائية القطبية الجديدة حجز له مكاناً بالسياسة ولبلاده في (يالطا) شباط/فبراير 1945 قمة تقسيم العالم: فرانكلين روزفلت، جوزيف ستالين، وونستون تشرشل، لقد كان هناك كبيران ومستثمر سياسي عبقري! الملاحظ قدرة امريكا العسكرية ليست سبب قوتها، إنما نتيجة لها.
لقد بدأت قاعدتها العلمية والتكنولوجية بالتآكل بتحلل ثقافي بتحول المسرات المؤجلة الى ملذات دائمة على حساب اساسيات الرياضيات والتصنيع والعمل والادخار، البقاء على القمة له سلبياته، بافتراضه تحمل العالم مشقات إفهامه وتفهمه مثال سيادة اللغة الانكليزية التي حرمت اصحابها الأساسيين واعطت الآخرين فهماً ومدخلاً لسوقين وثقافتين ولغتين، فالتعلم من الآخرين لم يعد شيئاً اخلاقياً فحسب، بل ضرورة تنافسية متزايدة، الوظائف لا تذهب لدول منخفضة الأجور بقدر اماكن فيها عمال جيدو التدريب والتعليم، لأن العالم يسبح في رأس المال، على مدى قرن بعد 1894 كانت معظم السيارات المصنعة بأمريكا الشمالية تصنع في ميتشغان، ومنذ 2004 حلت اونتاريو بكندا مكانها، بسبب الرعاية الصحية المرتفعة بأمريكا 5600 دولار للعامل مقابل 800 دولار في كندا! ليصبح توظيف الأمريكي مخاطرة تنافسية، هذا المأزق يطال الشركات الأمريكية؛ عندما كانت تجلب من الخارج رأس المال والمعرفة، واليوم يكتشفون أن الآخرين لا سيما الصينيين لديهم المال والمعرفة.
لقد كان العالم الماضي من تصميمها واليوم هي في قلب اكبر فترات التغيير في التاريخ، العالم الجديد ربما تسيطر فيه امريكا بفضل قوتها في العالم الشبكي على مساحة اقل، لكنها مجبرة على الاختيار بين استقرار النظام العالمي الناشئ بتقبل الأمم الصاعدة والتنازل عن بعض الامتيازات والقبول بعالم متعدد الأصوات ووجهات النظر، وبين ان تقف في وجه منطق التاريخ الذي يطال كل شيء وهو يولد المزيد من النزاعات مما سيمزق النظام الذي بنته على مدى السنوات المنصرمة، فهل يدرك الساسة في واشنطن حقيقة واقعة ما بعد امريكا ودراويش غزة؟.
كان يمكن التفريق في الاساس قبل الحرب على غزة بين الحالتين الاوروبية والامريكية الا ان الوقائع التالية برهنت انهما وجهان لعملة استعمارية واحدة.
العولمة التي ابهرت العالم في جزء بنيوي منها لم تكن سوى نظرية اللون الواحد التلمودية التي ارادت مسخ العالم على نحو عنصري على شاكلة المرابي الصهيوني كما في رائعة شكسبير «تاجر البندقية».
يتبع