من إبداعات الاديب الكبير الاستاذ مروان الخطيب

في تَحَاليقِ الذَّوبان…!

 

“الحُلمُ اشتهاءٌ أخَّاذٌ وبَهُور، والواقعُ فجيعةٌ قاحلِةٌ وقَهُور”

-أصيل العَكَّاوي-
————————————–

“العينُ التي لا تدمعُ إلَّا من القذى أحرى بها العمى”

– رجب الأمين-

————————————–

كانَ اللَّيلُ نائماً كالعُرجونِ القديم،
وقلبُ ريحانَ بنِ ماءِ الرُّمانِ،
مُمَزَّقاً بينَ ماضٍ حزين، وعِشقٍ طافحٍ بالذَّوبان،
وكانتْ قصَّةُ شاعرِ النَّمسا الأشهر “راينر ماريا ريلكه” مع مُلهمتِهِ الشَّرقيَّةِ “نعمت علوي بك”، حاضرةً في نبضِهِ كما يحضرُ في قلبِ العاشقِ ولَعُهُ وانسكابُهُ الحَرُور!.
ثَمَّةَ رحلةٌ أبحرَ خلالَها إلى مواجعِ “فاسكو” بطلِ رواية “فرنسوا هنري ديزيرابل” المُسماةِ (سيِّدي وقاهري)، وأطلَّ معهُ على تراجيديا العشقِ في قلب محبوبتِهِ “تينا” ذاتِ العينين الخضراوين والقدرةِ الفَذَّةِ في امتلاكِ ناصيةِ فنِّ الإلقاءِ حدَّ السِّحرِ الفاتنِ والأخذِ الخلوب،
وثمَّةَ ذاكرةٌ مُتْعَبَةٌ بصَفْحَاتِ الحُزنِ، وبِشَاراتِ الوَجعِ المُتأتي من الخيباتِ الكأداوات…، ومن تلك السُّرعةِ الاسترجاعيَّةِ التي تُحيلُ الأبيضَ أسودَ مغموراً بالعَبراتِ والآهات…!.
لكأنَّهُ من طينةِ أخرى،
ويعزفُ في قلبِهِ تراتيلَ البنفسجِ وبُحَّةَ السَّفرجل،
ويحلمُ بسيرةِ الفينيقِ تأخذُهُ إلى بناءِ عُشٍّ لرحيلِهِ بينَ النباتاتِ المُترعةِ بالرَّائحةِ الطَّيبةِ، وبعيداً عن مُضاعفاتِ الأرقامِ المُتْعِبةِ، وقريباً جِدَّاً من هالةِ الرَّقم 《7》ذي الإيحاءِ الجميلِ البسيمِ بفجرٍ أخضرَ، لا مكانَ فيه للرَّماديِّ المقيت…!.
كان يتذكَّرُ مليَّاً “دافيد فوينكينوس”، وكيفَ كانَ تعلَّقَ فؤادُهُ ورُوعُهُ روايةَ (جميلةُ السَّيِّد) لِ “ألبير كوهين” فأصبحتْ ملهمتَهُ في نبضِهِ وحرفِه، وقرأها وهو ابنُ عشرين، ثُمِّ وهو ابنُ ثلاثين، ثُمَّ تعلَّقها أكثرَ وقرأها بنهمِ العاشقِ العَقُولِ وهو ابنُ أربعينَ ربيعاً، فانسكبتْ كلماتُهُ انسياباً رقراقاً، وفُراتاً عذوباً في رواياتٍ عدَّةٍ، منها: ( الرِّقة)، (شارلوت)، ( اللطافة)، (الذكريات)،و(نحوَ الجمال)، وألقتْ بظلالِها المُوحيةِ على مَراقي الشِّعرِ في إبداعِ بول فيرلين، فيكتور هوجو، ألفونس دي لامرتين، ألفرد دي موسيه، وسواهم ممن رصدتْ أشعارُهم نوابضَ العاشقين وأحلامَ الهائمين، وتلكَ الشَّذراتِ السَّنيَّةَ في الليالي الحزينةِ والبهيَّةِ لأطيافِ الولهينَ بينَ ضفافِ الرَّاين والسِّين، وغدتْ (نحوَ الجمال)، منارةَ “فوينكينوس” لبثِّ رسالة القلبِ ودعوة الناسِ في مجتمعِهِ لارتقاءٍ في الوعي يُبعِدُهم عن التَّدني الأخلاقيِّ، ويرتقي بهم إلى بناءِ الذائقةِ الجَماليَّةِ من خلال الاهتمامِ بفنِّ الرَّسمِ الذي “يُزَيِّنُ حياةَ الإنسانِ، ويملأُ روحَهُ بعبقِ الجمالِ وسحرِهِ، فيزيدُهُ راحةً نفسيَّةً وطمأنينةً وتفاؤلاً”…!.
لم يكن ابنُ ماءِ الرَّمانِ سوى قلبٍ يمشي على اليابسةِ، وقريباً من مجامعِ الأمواهِ ومصادرِها، وقريباً جداً من الجبالِ وشماريخها، ويشتمُّ الأخضرَ رانياً إلى ملكوتِ اللهِ العليِّ العظيم، وحالماً بالأرضِ مغسولةً بندى السَّماءِ وريحانِها، ومعجونةً برُحاقِ الجَنَّةِ وبَخُورِها، وممتدَّةً في تحاليقِ الخيرِ وعِقبانِها…، وكان يحلمُ بيومٍ تُشرقُ فيه الشَّمسُ بلا زوغان، فيسودُ عدلُ الفَوقِ كلَّ الأعيان، ويعودُ الرُّوحُ للحجرِ والشَّجرِ والإنسان…!.
ولا ينسى صاحبُنا، إبنُ ماءِ الرُّمان تفاصيلَ رؤياهُ، وقد هبطَ في الغابةِ السَّوداءِ من مقاطعةِ “بادن فورتمبرغ” في أرضِ الجرمان، فوجدها حُوريَّتَهُ المُتَدلِّية من الجِنان، وقدْ سوَّرتْهُما أشجارُ السَّروِ والصَّنوبرِ حدَّ التَّماهي معَ الأطيارِ في الصُّعُودِ الشَّهيِّ، الشَّذيِّ، والعليِّ إلى مراتبِ الطيران، وكيف استحالتْ الرُّؤيا أملاً بآتٍ كالتَّمر والقمحِ في معتَرَكِ الشَّمسِ والدَّوران…، وشَدَّهُ ما رآهُ فوقَ الأشجارِ وبين الأغصان، من طائر العَقعَقِ ذي السِّحرِ الكامنِ في الرِّيشِ الأبيضِ والأسودِ والأزرقِ، والأخضرِ السَّاكنِ ذيلَهُ، وقد مازجَ ألقَ البرونزيِّ من الألوان، ولفتَهُ أيضاً ذاكَ التَّعالي المُهيبُ للبواشقِ، وكأنَّها الحارسةُ للهواءِ هناكَ من عَتْمَاتِ البُومِ والغِربان…!.
وفي زمانِ الوَجدِ، ينسرحُ الخفقُ في اشتهاءِ الذَّوبان، ويلتفتُ صاحبُنا ثانيةً وسابعةً إلى المُتَنَبِّي شاعرِ الحِكمةِ والأزمان، ويتذكَّرُ قولَهُ:
“ذو العقلِ يشقى في النَّعيمِ بعقلِهِ
وأخو الجَهالةِ في الشَّقاوةِ ينعمُ”، ويتذكَّرُ في تذكُّرِهِ هذا، أديبَ السُّودانِ الفذَّ الرَّاحلَ معاويةَ مُحَمَّد نور، الذي أينعَ بعطاءاتِهِ النَّقديَّةِ والأدبيَّةِ قُطوفَ الأدبِ وصُروحَهُ في ثلاثينيَّاتِ القرنِ العشرين، لكنَّهُ ذوى فريسةَ الإحباطِ والهواجسِ، بعد ما نالهُ من الإرهاقِ العقليِّ ما نالَهُ، وهو يكتبُ ساخراً من الهيمنةِ الاستعماريَّةِ لبلادِهِ وأمَّتِه!.
وعندَ هذا الحَدُّ يعودُ صاحبُنا إلى خفقاتِ القلبِ والجَنان، ويُشرقُ بوحُهُ كالبيلسان:
ها أنتذي مَحارتي وعِطري،
عكَّائي، صَفَدي، شامي، وقُدسي،
وسليلةُ الكهرمانِ في سَلجوقَ وبوطان،
ترسمينَ عافيتي بحرفِكِ ونبضِك،
وتكتبينَ موتي بغُروبِك،
وتولدينَ من حرفي وبُرقوقي،
فلا تكوني غيرَ بنتِ عبد الله،
ولا تُشرقي إلَّا للرَّيحان،
ولا تُلقي بالاً للشيطان…!.
يا سليلةَ الغيمِ والغيث،
ويا انبثاقَ الفكرةِ من قمقمِ شهرزادَ وألف ليلة وليلة،
ويا مليكةَ الليلةِ السَّابعةِ بعدَ الألف…!،
لا تكوني إلِّا أنتِ،
وأنتِ المُبتدأ والخبر،
والضَّادُ أنتِ،
وفاتحةُ الكتاب…!.

 

مروان مُحَمَّد الخطيب
7/2/2022م