“من خواطر زيارتنا ل طرابلس” … هذا ما حذّر منه كمال جنبلاط عام 1965

“في رحلتي الأخيرة إلى مدينة طرابلس، واتّصالي ببعض الأهلين من الفيحاء وعكار وسواهما … يشعر المرء بقلقٍ كبير لمصير هذا الجزء الكبير والعزيز من لبنان، الذي يتزايد عدد سكّانه بشكلٍ مستمر، ولا يطاله أي ازدهارٍ اقتصاديٍ مباشر” … “لو استمرّ وضع التخلّف والحرمان في مدينة طرابلس … لكانت الثورة تشتعل في كل حين، ولا يستطيع أحد أن يخمدها…”

هذا بعضٌ مما كتبه المعلم الشهيد كمال جنبلاط في مقال بعنوان “من خواطر زيارتنا الى طرابلس”، في آب من العام 1965، وكأن الزمان لا يزال هناك. تعيد “الأنبــاء” نشر هذا المقال كونه يعكس جانباً من الواقع الذي تعيشه مدينة طرابلس وعدد كبير من المناطق اليوم نتيجة تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي

في ما يلي النص الكامل للمقال:

الاقتصاد التجاري، أي ذو الطابع التجاري الغالب والوحيد، لا تطال فائدته وأزدهاره إلّا بضعة أحياء من مدينةٍ كمدينة بيروت، وبعض فئاتٍ من هذه الأحياء من دون سواها، وممن يعملون في هذا الاقتصاد، أو يشملهم استهلاك هذه الفئة الغنية

يتوسّع قليلاً هذا الاقتصاد التجاري ليضمّ تحت جناحيه منطقةً ضيقة من القرى، وفئات قليلة من ساكني القرى ممن يعملون في هذا الاختصاص، أو يشملهم استهلاك هذه الفئات لبعض المواد الاستهلاكية، أو يفيدون من رغبة الذين ينتقلون للاصطياف وللإشتاء ولشراء البيوت. أما سائر أنحاء البلد فلا يطالها شيء من رحمة الجيوب الممتلئة، فهي تبقى تعيش الحرمان والتخلّف والانعدام العيشي الشائن. ويعود ذلك إلى أن الطابع الغالب للاقتصاد التجاري المحض، والذي لا تتوازن وتنمو فيه الزراعة والصناعة، هو عدم استطاعته تشغيل سوى عدد قليل من الناس، وذلك بخلاف الاقتصاد الحقيقي المتوازن الشامل لكمية الإنتاج في البلد بموازة تنمية التجارة. والتجارة مهنة عقيمة بحد ذاتها إن لم يغذيها الإنتاج

في رحلتي الأخيرة إلى مدينة طرابلس، واتّصالي ببعض الأهلين من الفيحاء وعكار وسواهما تتضح جليةً هذه الحقائق، ويشعر المرء بقلقٍ كبير لمصير هذا الجزء الكبير والعزيز من لبنان، والذي يتزايد عدد سكّانه بشكلٍ مستمر، ولا يطالها أي ازدهارٍ اقتصاديٍ مباشر، حتى في الحقل التجاري، حيث كان بالإمكان أن يطال بعض الازدهار فئات معيّنة، على الأقل، في المدينة وفي الأحياء، فإن ذلك يحصل لأن بيروت قد احتكرت كل شيء في حقل الاستيراد والتصدير تقريباً، فأضحت هذا السرطان التجاري والبشري الهائل بالنسبة ذاتها كما الخلايا السليمة الأخرى الباقية في البلد

وكنت أسائل نفسي، كيف يستطيع المئة والستين ألف مواطن من سكان طرابلس أن يعيشوا في المستقبل- وهم في نمو بشريٍ متزايد – وكيف يستطيع أن يعيش أبناء البترون، والكورة، وعكار، والمتزايد عددهم أيضاً باضطرادٍ سريع، ولم نحرص أن ننمي لأجل ذلك أي موردٍ يعيشون منه

وحتى في الحقل التجاري المحض، كان ولا يزال، يتوجب في نظرنا أن ينشأ مرفأ ضخم في طرابلس، ومرفأ آخر في صيدا، ومرفأ ثالث في صور، وقد شدّد الأب لوبريه في دراسته للأوضاع الاقتصادية اللبنانية العامة على ضرورة إنشاء مرفأين، على الأقل، في طرابلس وفي صيدا… ثم علينا أن نجبر بعض الخطوط البحرية على أن تتعاطى مباشرةً مع هذه المرافئ، وأن نخصّص هذه المرافئ باستيراد وتصدير بعض السلع والمواد

يشبه وضع البلد اليوم رجلاً يجلس فيأكل ما طاب له من الطعام بشرهٍ غريب وأمامه وفرة هائلة من المأكل، بينما يقف الكثيرون ينظرون إليه يأكل ويُتخم من كثرة الطعام، ويعربد ويرمي بماله جزافاً على غير هدي… أيكفي هؤلاء لكي يشبعوا أن ينظروا إلى حضرة الأكل

أما في حقل تخلّف الوضع، فلا يمكن أن يتصوّره أحد إذا ما رآه بعينه، أو سمع به من ذويه وأهله، على الأقل

مدينةٌ صغيرةٌ كالمنية تضم سبعة عشر، إلى ثمانية عشر ألف نسمة، وتبعد بضعة أميال عن طرابلس، ولا يوجد فيها غرفة هاتف، ولا يوجد فيها مستوصف، ولم تتوافر لها مدرسة تكميلية إلّا منذ بضع سنوات قليلة جداً، منذ ثلاث أو أربع سنوات كما قيل لنا

أمّا طرقات سهل عكار فتغمرها المياه والأوحال في الشتاء، ولأنّها غير معبّدة فتنقطع على أهلها… وطرقات طرابلس ذاتها تحتاج إلى الكثير من العناية، والتحسين، وصرف الأموال على الرغم ممّا صُرف لأجل تحسين أوضاع المدينة في العهد الشهابي، أما التخلّف السكني، وأحياناً الماء والكهرباء فهو أمرٌ واقعٌ، وخاصةً في بعض الأحياء والضواحي

جرود عكار في حالة من البؤس والتخلف لا يحلم بها حضرة أبناء الأغنياء، وأرباب الاحتكارات الكبرى، وشماعنة كل زمان… ولا يوجد طبيبٌ واحدٌ في عكار. وقد أوجد الرئيس فؤاد شهاب صيدلية واحدة فيها… ولا تزال مناطق بأسرها دون طرقٍ أو ماء، أو كهرباء أو مدرسة، وبعض الأهلين يعيشون في حالة من التخلّف الحضاري لا يتخيّله بشر، وعشرات الألوف منهم من اللبنانيين الأصليين، لا يملكون أية جنسية، ونحن نتلهّى بإدخال البولونيّين، والأتراك، والإيرانيين وسواهم في حظيرة الجنسية اللبنانية، في التفكير الساذج المهترئ، أي لكي يزيد عدد هؤلاء على هؤلاء

الحالة في البترون وفي الكورة، وربما في الزاوية وبشري، هي طبعاً على قليل أو كثير من هذه الصورة والوصف في مجالَي التخلّف والحرمان. وكنت أفكّر أنه لو لم يمرّ عهد الرئيس فؤاد شهاب على البلد، ويتوافر لهذه المدن والمناطق شيءٌ من الإصلاح والتنمية، فكيف كان يمكن أن يكون وضع هؤلاء؟

ما أجدر بعض رجال الدِّين وسواهم ممن أُغلق على عيونهم، وغيرهم من رجالات السياسة، أن يذهبوا ليروا حالة هؤلاء البشر، فيدركوا إذ ذاك فضلَ النهج الشهابي العمراني وضرورة استمراره، لا الانصراف إلى الانتقاد على غير معرفة لتهديم وتقويض هذا النهج، كما يفكر الشماعنة، والكتلويّون الإدّيون، و”شوادر” كل زمان، وطغمة الاحتكارات، والاستثمارات الكبرى في البلد

ثم كنت أتصوّر كم كانت تكون النقمة متفاقمة، هدّارة، ثائرة ومؤذية، لو لم يمرّ العهد الشهابي والنهج الشهابي على تلك المناطق، ويوزّع عليها شيئاً لا يزال قليلاً من منافع الدولة وخدماتها، ومن تطلبات العيش الإنساني البسيط. ومع استمرار النهج الشهابي، يمكن رفع ظلامات الحرمان والتخلّف بشكلٍ كاملٍ وشامل عن جميع مناطق لبنان بعد سنوات قليلة

وكنت أفكّر جدياً بأنّه لو استمرّ وضع التخلّف والحرمان، وتوافر لهذا الشعب قائدٌ اجتماعي، لكانت الثورة تشتعل في كل حين، وتشمل ثمانين بالمئة من سكان لبنان ومناطقه ولا يستطيع أحد أن يخمدها، ولتسلّم هو الحكم بشكلٍ مباشر

العيش الاقتصادي، هل نسعى لتوفيره لجميع اللبنانيين، ولكل المناطق، لكي نحول دون قيام الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الكبرى القادمة علينا في المستقبل القريب؟

أمّا مشروع التصنيع في لبنان، وتوزيع الصناعات على المناطق – وهو الذي وضعته الحكومات الشهابية التي كنتُ عضواً ناشطاً فيها – فلَم يُعرض بعد على مجلس الوزراء وعلى المجلس النيابي، كما أن تأسيس مصرف القروض البعيدة الأجل لم يتحرك من الأدراج التي تتضمنها، وسواها من المشاريع المنتجة الحقيقية

نتلهى بأن نعلّق الأهمية القصوى على السياحة، وأنها سيعمرُ بها لبنان، وننسى أنها اقتصادٌ هامشي. أمّا الإنتاج الزراعي والصناعي فهو الأساسي، والسياحة لا يمكن أن تكون إلّا المموّل بشكلٍ غير مباشر لمشاريع الإنتاج

يجب أن نصنع الكثير، وأن نوفّر العيش والعمل لمليون ونصف المليون من اللبنانيين في المناطق المتخلّفة في الشمال، والجنوب، والبقاع، وفي الشوف، وجبيل، وفي أحياء بيروت وسواها، لِمن ساحت عقولهم في طلب اللقمة وسافر جوعهم وعطشهم في طلب العمل، وهم يحيَون في أجواء القلق الدائم