رشيد كرامي شهيدا ،قراءة في السيرة السياسية الذاتية بقلم البروفسور الامير وليد الايوبي

البروفيسور الأمير وليد الأيوبي. رئيس قسم العلوم السياسية والإداربة في الجامعة اللبنانية (الفرع الثالث).

رشيد كرامي شهيدا !!! قراءة في السيرة السياسية الذاتية

تشير بعض الرويات الى أن آل كرامي كانوا ينتمون مذهبيا الى طائفة ‫‏الموحدين الدروز،‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وأنهم استقروا في مدينة طرابلس قادمين من ‏جبل لبنان‬‬‬ الجنوبي، كما تشير روايات أخرى إلى أنهم قدموا من مدينة ‫‏حمص‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ الى مدينة ‏طرابلس‬‬‬ في القرن السابع عشر للميلاد، حيث اعتنقوا الإسلام بعد أن استقرّوا في هذه المدينة.
أما سياسيا فتبدأ المسيرة الكرامية مع الرئيس الراحل ‏عبد الحميد كرامي‬‬‬، الذي كان الى جانب “الثورة العربية الكبرى” (ثورة الشريف حسين‬‬‬) وكان موقفه حينها تعبيراً منه عن رفضه لسياسات ‫‏التتريك‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ التي انتهجها “الاتحاديون”، وتجلّياتها السياسية والإدارية والثقافية، وكان تعيينه من قبل ‫‏الملك فيصل‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ حاكما إداريا للواء طرابلس عام 1918 مؤشرا على حيثيته الشعبية المحليّة، والتي نجح في بناءها في ضوء توليه المسؤولية بعد وفاة والده مفتي طرابلس الشيخ رشيد، وعلى الهوية القومية التي تكتنزها شخصيته.
وكان عزل عبد الحميد كرامي من منصبه من قبل ‫‏المندوب السامي‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ الفرنسي في العام عينه الذي تم تعيينه فيه حاكما إداريا للواء طرابلس من قبل الملك فيصل، مؤشرا على التناقضات التي كانت سائدة حينذاك بين ‫‏الثورة العربية‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ والدول الاستعمارية، وعلى الصراع السياسي والدبلوماسي الذي كان دائرا بين ‫‏لندن‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وباريس‬‬‬.
ورفض عبد الحميد كرامي فكرة الكيان اللبناني، وكان مرد رفضه لهذه الفكرة الى إيمانه بالهوية العربية الجامعة، ورفضه لكل السياسات الاستعمارية، وكان يردد بأنه ما كان ليقبل بلبنان ككيان مستقل عن ‫‏العرب‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، إلا بعد أن قبل العرب أنفسهم بهذه الحقيقة السياسية.
ولم يكن انخراط الرئيس الراحل عبد الحميد كرامي بالتركيبة السياسية المحلية في لبنان سوى بدواعي الواقعية السياسية التي لم تدم طويلا. وكان يرى نفسه في الطرف النقيض من المنظومة السياسية السائدة بعد أن تبين له في ضوء توليه المسؤولية كنائب ووزير ورئيس للحكومة، أن هذه التركيبة عبارة عن منظومة ‫فساد‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، وكان هو أول من نعتها بالمزرعة.
ورث الرئيس الشهيد ‫‏رشيد كرامي‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ زعامة البيت الكرامي عن أبيه الراحل في العام 1951 وشغل، الى جانب كونه نائبا، مناصب وزارية عديدة. وكانت أحداث سنة 1958 التي شهد الرأي العام السياسي انقساما عموديا في ضوئها بين الموالين للتيار العروبي الناصري والتيار الموالي للغرب، مفصلية في حياته السياسية.
وكان موقف الرئيس الشهيد رشيد كرامي من “ثورة 58” منسجما مع موقف الرئيس الراحل عبد الحميد كرامي لجهة مناصرته للتيار القومي العربي، ورفضه للسياسات الغربية ‫‏الامبريالية‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، وكان حصل ذلك رغم العلاقة السياسية والشخصية الممتازة التي كانت تربطه بالرئيس الراحل كميل شمعون…ومن المفارقات الإيجابية أيضا أن يكون موقفه على المستوى الوطني ضد التعاطي مع نتائج ‏ثورة 1958‬‬‬ على قاعدة غالب ومغلوب، رغم سياسة شمعون التنكيلية بحق خصومه السياسيين، فكان يرى رغم خلافه مع رموز المارونية السياسية، بأن مارونية الرئاسة ضمانة للجمهورية.
رأس رشيد كرامي الحكومة عشر مرّات محطما رقما قياسيا بصفته أكثر رؤوساء الحكومات تعيينا بالطرق الديمقراطية على حد ما ورد في موسوعة غينيس، كما كان أصغر البرلمانيين والوزراء ورؤساء الحكومات اللبنانيين سنّا، ولقد دام ترؤسه للحكومات اللبنانية على مدار حياته السياسية قرابة 12 سنة، وكانت له اليد الطولى في كل اﻹنجازات التي شهدتها الجمهورية اللبنانية في ستينيات القرن المنصرم، وكانت أبرز محطات تلك الحقبة، تولّيه، إضافة الى رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الراحل ‫فؤاد شهاب،‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ومن تشرين الأول 1958 الى تشرين الأول 1959، وبسابقة غير معهودة في تاريخ تشكيل الحكومات، أربع مناصب وزارية في وقت واحد، وهي الاقتصاد الوطني والأنباء والدفاع الوطني والمالية، وكان مرد ذلك الى الأسباب الثلاثة الآتية:
1) ضرورة حصر السلطات بعد انتهاء أزمة 1958 وبصورة استثنائية منعا لتدهور اﻷوضاع.
2) طمأنة الرأي العام القومي العربي أمنيا وسياسيا وإعلاميا وثقافيا من خلال توليه وزارتي الأنباء والدفاع.
3) ضبط اﻷوضاع الاقتصادية، والشروع في تحقيق التنمية الشاملة، من خلال توليه وزارتي المالية والاقتصاد الوطني.
وكان الرئيس كرامي دائم الحرص على أن يتولّى شخصيا حقيبة المالية في كل مرّة كان يشكل فيها حكوماته، وكان مرد تمسكه بهذه الحقيبة الى حرصه على المصلحة العامة، باعتبار المال عصب الحياة السياسية، وأهم أدوات التنمية البشرية، ودرءا للمخاطر التي كانت تمثلها ‏الاحتكارات‬‬‬ على سلامة الاقتصاد الوطني والمالية العامة. ولا عجب في ذلك عندما نعلم أنّ “يوسف بيدس” صاحب بنك “إنترا” كان صرّح لحظة مغادرته لبنان عام 1966 عبر مطار بيروت بُعيد إعلان مؤسسته عن إفلاسها في ظل ظروف مريبة، أنّ التسعة وتسعين نائبا لبنانيا حينها، كانوا يتقاضون منه مخصصات شهرية، باستثناء نائبين اثنين هما رشيد كرامي و‫كمال جنبلاط‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.
وكان يُعرف عن الرئيس الشهيد رشيد كرامي حسن اتخاذ القرار، فكان سهلا ممتنعا، وكان يروى عنه تهذيبه ورقيّه في التفاعل مع المرؤوسين، فلا يتكبر ولا يعنّف، وكان القانون حدود علاقته بالآخرين، وكان جازما في تطبيقه على المخالفين له والمتعالين عليه، وكان يفنّد المراسيم قبل التوقيع عليها، وكان شديد الحرص على تطبيق مبدأ العدالة في توزيع الوظائف، فلا يستغل سياسيا لا فرصة ولا ظرفا ولا موقعا. وتميّزت شخصية الرئيس الراحل رشيد كرامي بالعديد من الخصائص أبرزها الآتية:
أما على المستوى الشخصي، فالإيمان والأمانة والنزاهة والتسامح والتواضع والحكمة والحنكة وحسن التصرّف وحسن الظن بالآخرين وآداب التعامل (1).
أما سياسيا، فقد تميزت شخصية الرئيس الشهيد بالاعتدال، واحترام القانون، والإيمان بمشروع الدولة، والمواطنية، والتمسك بالشرعية، والوطنية، والمواطنة، والرابطة القومية، ومبدأ عدم اﻹنحياز، والرابطة الاسلامية، والرابطة الإنسانية، وليس اغتياله في حمأة الحرب الأهلية، والحرب الباردة، وشيوع المخططات التقسيمية، في 1 حزيران عام 1987، سوى اغتيالا للمبادىء والقيم التي ناضل من أجلها والتي لا قيامة للبنان إلا بها !!!
رحم الله الشهيد الرشيد، وألهم محبيه الصبر، واقتص من قاتليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1) عن آداب التعامل يروى أن الرئيس الشهيد، وفي حمأة الصراع السياسي والانتخابي الذي كان قائما خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بينه وبين المناضل النائب الراحل الدكتور عبد المجيد الرافعي، كان تزامن وصولهما الى مكان معيّن للقيام بواجب التعزية، ولما التقيا في اللحظة نفسها على باب الصالة نفسها، محاطا كل منهما بكتيبة من المرافقين، يبادر الرئيس رشيد كرامي، وكان حينها رئيسا للحكومة، فيدعو الدكتور عبد المجيد ليتقدمه بالدخول الى القاعة، فيبادر الدكتور عبد المجيد بالتمني على الرئيس كرامي أن يتقدمه هو بنفسه. لقد كان مشهدا سورياليا على حد وصف من كان حينها حاضرا، فالتوتر كان حينها في ذروته، فامتصه كليهما بحكمته وأدبه وحسن تصرفه، فتنفس بعدها الناس الصعداء…